( بقلم : حسين المياحي )
عزيزي القارئ: ليست الوهابية وليدة اليوم، ولم يؤسسها محمد بن عبد الوهاب من العدم، إنما هي امتداد لمدرسة أموية يعود أصلها إلى معارك بدر وأحد وغيرهما من المعارك التي قادها أبو سفيان ضد المسلمين إبان البعثة النبوية الشريفة، وتلك التي قادها معاوية في وجه علي (عليه السلام) وراح ضحيتها سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (عليهما السلام) غاية ما في الأمر أن محمد بن عبد الوهاب، وبالتعاون مع ذيول المستعمرين، نظّر لأسوأ ما في تلك المدرسة من أفكار، وقضى على ما فيها من بقايا الاعتدال والعقلانية، وأوقفها على آخر حافات التطرف والتشدد.
ومن أهم ما ميز تلك المدرسة عبر التاريخ: التكفير، والانتقائية في اختيار النصوص والوقوف عند ظواهرها، ومولاة الظالمين من الحكام، بل وتشريع سلطتهم، وفرض طاعتهم على العباد.يقول البربهاري الحنبلي (وهو من أبرز رؤوس التكفير في القرن الرابع الهجري) في كتاب شرح السنة: « إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله» وقال أيضاً: « من سيما أهل البدع الدعاء على ولاة الأمور، ومن سيما أهل السنة الدعاء لولاة الأمور». وقد استوقفني في تأريخ هؤلاء وأسلافهم من متشددي الحنابلة وغيرهم، موقفهم الشديد من الإمام أبي حنيفة، صاحب المذهب المعروف، وتكفيره ونعته بنعوت لا تتلاءم مع الذوق والأدب على أقل تقدير، ورحت أبحث عن سر ذلك علّني أجد تعليلاً مقنعاً لما أرى.
وقبل أن نتفحص الأسباب أستعرض معك عزيزي القارئ بعضاً مما قيل في الإمام أبي حنيفة وما نعتوه به من نعوت: 1 ـ روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن إسحاق بن منصور الكوسج أنه سأل أحمد بن حنبل: «هل يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ فقال: أي والله». 2 ـ وروى أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: قال لي حماد بن أبي سليمان « اذهب إلى الكافر، يعني أبا حنيفة، فقل له: إن كنت تقول: إن القرآن مخلوق فلا تقربنا»3 ـ وروى عن الأوزاعي أنه قال: « احتملنا عن أبي حنيفة كذا وعقد بإصبعه، واحتملنا عنه كذا وعقد بإصبعه الثانية، واحتملنا عنه كذا وعقد بإصبعه الثالثة العيوب، حتى جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لم نقدر أن نحتمله» وأنه قال أيضاً عن أبي حنيفة: «هو ينقض عُرى الإسلام عروة عروة» وقال أيضاً: « ما ولد في الإسلام مولود أشأم عليهم من أبي حنيفة» ونسبوا مثله أيضاً إلى ابن عون وسفيان الثوري ومالك بن أنس وغيرهم. 4 ـ وروى أحمد بن حنبل عن شعيب بن حرب أنه قال: قال لي سفيان الثوري: « اذهب إلى ذلك، يعني أبا حنيفة، فاسأله عن عدة أم الولد إذا مات عنها سيدها، فأتيته فسألته فقال: ليس عليها عدة، قال: فرجعت إلى سفيان فأخبرته فقال: هذه فتيا يهودي» وعن سفيان الثوري أنه قال: « ضرب الله عز وجل على قبر أبي حنيفة طاقاً من النار». 5 ـ وعن منصور بن سلمة الخزاعي، قال: سمعت حماد بن سلمة « يلعن أبا حنيفة » ، قال أبو سلمة: وكان شعبة « يلعن أبا حنيفة» وهذا غريب، فقد أجمع جمهور أهل السنة على حرمة اللعن بالتعيين، كافراً كان أم مسلماً، فهل كان أبو حنيفة أشد كفراً من الكافرين؟ ثم إن أسلاف الوهابيين حرَّموا لعن يزيد بن معاوية، وخالفوا في ذلك جمهور أهل السنة القائلين بلعنه، ودافعوا عنه، والتمسوا له الأعذار، وبرؤوه من قتل الحسين، فهل كان أبو حنيفة أضر على الدين من يزيد؟ 6 ـ أما عن أصحاب الإمام أبي حنيفة وأتباعه فقالوا: « لئن يكون في كل ربع من أرباع الكوفة خمار يبيع الخمر، خير من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة » (راجع هذه النصوص وغيرها في: كتاب السنة لأحمد بن حنبل، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والضعفاء للعقيلي، وغيرها)
هذه الأخبار وغيرها جمعها عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة، وعرض للإمام أبي حنيفة صورة أسوأ من صورة الشيطان، مع أن المبررات الفقهية والفكرية التي ذكروها لا تساعد على ذلك، ولا تستدعي أن يبالغ في تفسيق وتكفير الرجل إلى هذا الحد، حتى كأن أحداً في التاريخ لم يصل إلى ما وصل إليه من الضلال والانحراف. فهل أن وراء الأكمة أمر آخر؟
للجواب على ذلك لا بد من ملاحظة الآتي: 1 ـ أن أبا حنيفة لا يختلف في أصوله كثيراً عن مكفريه، ولم يأت بجديد في أصول الاعتقاد، ولو ادّعي أنه جاء بجديد في هذا الباب فليس الوحيد بين القوم، وبالتالي فإن كان من حساب وتقويم فلا بد من محاسبة غيره، وهم بالمئات، من العلماء والرواة وأصحاب الحديث بل من مؤسسي المذاهب الفكرية أو الفقهية. 2 ـ مجموع ما ذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل وغيره في هذا الخصوص يشير إلى الحقيقة التالية: أن أبا حنيفة أفتى بالخروج على السلطان، ومال إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى في ثورته ضد العباسيين. فتجاوز الخطوط الحمراء في معارضة الحكام وتأييد العلويين. وهذا واضح من قول الأوزاعي فيه: «فلما جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم نقدر أن نحتمله» وقوله فيه: « يرى السيف على أهل الإسلام » وقول أبي إسحاق الفزاري: «كان أبو حنيفة مرجئاً يرى السيف».
ورووا عن أبي إسحاق الفزاري أيضاً أنه قال: « لما قتل أخي جئت الكوفة فسألت عن أخي فقالوا: استفتى أبا حنيفة في الخروج مع إبراهيم فأفتاه، فقلت له: تفتي أخي بالخروج معه؟ يعني إبراهيم، فقال : نعم وهو خير منك»وموقف الإمام أبي حنيفة من ثورات الحسنيين، ومنها ثورة إبراهيم، وتأييده لها، وإفتائه بالخروج معه، مما ثبت تاريخياً.
جاء في مقاتل الطالبيين أن أبا حنيفة كتب إلى إبراهيم كتاباً يقول فيه: « إذا أظفرك الله بعيسى وأصحابه فلا تَسر فيهم سيرة أبيك في أهل الجمل، فإنه لم يقتل المنهزم، ولم يأخذ الأموال، ولم يتبع مدبراً، لأن القوم لم يكن لهم فئة، ولكن سر فيهم بسيرته يوم صفين، فإنه سبى الذرية ودفف الجريح، وقسم الغنيمة، لأن أهل الشام كانت لهم فئة وكانوا في بلادهم. فظفر أبو جعفر المنصور بكتابه، فسيره وبعث إليه فأشخصه، وسقاه شربة فمات منها ودفن ببغداد».وله مواقف أخرى في التعرض للسلطة لا مجال للحديث عنها هنا.
3 ـ موقف الإمام أبي حنيفة من الإمام جعفر الصادق عليه السلام، يختلف كثيراً عن مواقف غيره ممن درسوا عند الإمام الصادق (عليه) كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهما، فهو وإن لم يكن من شيعته، ولا من التابعين له في آرائه، إلا أنه أشاد بعلمه، وافتخر بأخذه العلم عنه، وقال كلمته الشهيرة: «لولا السنتان لهلك النعمان» وهذا يتنافى مع نهج السلطة في محاصرة أهل البيت والتضييق عليهم.
قال الآلوسي في مختصر التحفة الاثني عشريّة: «وهذا أبو حنيفة ـ وهو هو بين أهل السنّة ـ كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: «لولا السنتان لهلك النعمان» يريد السنتين اللتين صحب فيها ـ لأخذ العلم ـ الإمام جعفر الصادق عليه السلام».فأغاظ بذلك السلطة وفقهاءها على حد سواء.
من هنا فإن الموقف المتوقع من السلطة السياسية وفقهاء البلاط، لا بد أن يكون بهذا الشكل، فالسلطة تخاف على عرشها، وهي مستعدة أن تقمع وتكتسح من يقف في وجهها كائناً من كان، من العلويين أو الفقهاء أو العلماء أو غيرهم، أما فقهاء السلطة فإنهم موظفون لديها، يستجيبون لأوامرها من جهة، ولنوازعهم الشخصية وأحقادهم الدفينة على علي بن أبي طالب عليه السلام وما يمت إليه بصلة، مهما كان لونه أو مذهبه. من هنا فقد صنفوا الإمام أبا حنيفة في خانة المعارضة للسلطة، والموالاة لأهل البيت عليهم السلام ـ وإن لم يكن موالياً حق الموالاة ـ ونحن نعرف أن تهمة المولاة لأهل البيت عليهم السلام على مدى التاريخ تعد من الجرائم الكبرى التي لا يستطيع من اتهم بها أن يفلت من العقاب، سواء كان جسدياً أم غيره. لذا وقع الإمام أبو حنيفة ضحية لهذين الأمرين، وأصبح غرضاً لهام التكفير واللعن، فبلغوا به مرتبة هي أقرب إلى إبليس.
https://telegram.me/buratha