( بقلم : عبدالله بدر إسكندر المالكي )
لقد ذكرني أحد الزملاء الكتاب بأيام رفحاء [أيام اللجوء] مما جعلني أكتب هذا المقال على عجل، وكما يقولون للذكريات طعم الشذى ورائحة الندى رغم المعاناة والظروف الصعبة وما يومنا بأفضل من أمسنا.قبل دخولي إلى الجامع [المسجد] لإلقاء محاضرة في تفسير القرآن الكريم إستوقفني أحد الإخوة وبيده نسخة من القرآن الكريم وقد تغير شكلها إلى اللون الرمادي، أي أن النار قد أحرقتها من جميع الجهات ولم يتبقى منها إلا الحروف التي تكون الكلمات بحيث يستطيع القاريء تمييز تلك الكلمات دون صعوبة تذكر، فقال لي هذا الشخص الذي يحمل النسخة: أليس هذا مصداقاً لقوله تعالى [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]. فقلت له إن الذي حدث مع هذه النسخة من القرآن الكريم ليس من قبيل ما تفضلت به ولكن هناك مادة توضع على الحروف لتعصمها من النار في حالة الحريق، هذا إذا كانت النار بدرجة معينة، أما إذا وضعت المصحف في النار لفترة من الزمن فلن تجد منه بقية تذكر فالمقصود بالحفظ ليس هذا بل المقصود هو ما أتطرق له الآن في هذا المقال.العنوان الذي وضعته للمقال ذكر في القرآن الكريم ثلاث مرات فالذين ذكروه في المرة الأولى كانوا للكذب أقرب منهم للصدق، وقد كرروا هذا القول مرة أخرى وكان هذا التكرار لا يمكن فيه ترجيح الصدق على المصلحة التي عملوا لأجلها. أما الموضع الثالث فأثبت صحته ولا يزال وإلى يوم يبعثون.
فالموضع الأول: كان لإخوة يوسف حين قالوا لأبيهم: (أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) يوسف 12.وكذلك الموضع الثاني: فهو لهم أيضاً حين طلبوا من أبيهم أن يرسل بنيامين معهم كما قال تعالى على لسانهم: (فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون) يوسف 63.
أما الموضع الثالث: والذي سيكون حديثنا في هذا المقال فهو قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9. وهذا الوعد الصادق الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ولا يزال يثبت صدقه وصحته وبتحد لا مثيل له، رغم ما أصاب المسلمين من ضعف وهزيمة ورغم الأدوار التي مروا بها والحروب والمضايقات التي إختلفت عليهم في كل زمان ومكان إلا أن وعد الله تعالى لا يزال على ما هو عليه ، وهذا هو الفرق بين القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى لأن تلك الكتب كانت مهمتها حمل منهاج الله تعالى إلى البشر بواسطة الأنبياء الذين كلفوا بتبليغ المنهاج الذي إحتوته تلك الكتب، إلا أنها لم تكن تحمل إعجازاً بل كانت معجزات الأنبياء تختلف عن المنهاج كما هو معلوم.
ثم أن هذا المنهاج كان تكليفاً من الله تعالى لأولئك الأقوام والتكليف لا يتعدى حدود التشريع ، أي أن حفظه كان موكل لهم وداخل ضمن الطاعة أو العصيان، ولعدم إلتزامهم بذلك النهج فقد إمتدت إليه يد التحريف وتحت عناوين مختلفة ، منها ماهو زيادة على الأصل ومنها ماهو تبديل للنص وبعضها كان على شكل إقتطاع الأصل كما قال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما إستحفظوا من كتاب الله) المائدة 44.
وأكثر من هذا العمل فإن كثيراً من الحقائق التي تحثهم على إتباع المنهج اللاحق ذهبت في أدراج الريح على علم وبينة منهم كما قال تعالى: (وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) البقرة 146.
وهذا هو الفرق بين التكليف الذي يكون عرضة للطاعة أو العصيان وبين الحفظ التكويني الذي لا يلتفت لمن يطيع أو يعصي. ولذلك فإننا نرى إنتشار القرآن الكريم في جميع أرجاء العالم، ولا يوجد كتاب في الكون بأكمله لاقى إنتشاراً كإنتشار القرآن الكريم . ونرى حتى غير المسلمين قد إنشغلوا بطبع المصاحف وتوزيعها، وإنشاء المكتبات التي تتعلق به وبعلومه في كل مكان، حتى ظهر التناسب العكسي بين حفظ القرآن وبين العمل به فكلما قل العمل به زاد إنتشار القرآن بطريقة ليس لها نظير وهذا لم يتأتى لكتاب من قبل ولا من بعد.
ومن هنا يظهر الإعجاز الذي لا يبارى والذي دحضت به حجة من أراد النيل من هذا الكتاب. لأنهم ليس لهم نصيباً من تغيير حتى حركة واحدة من القرآن الكريم فضلاً عن الحرف فضلاً عن الكلمة فضلاً عن الآية ..... الخ.وهكذا فهم لا يمتلكون إلا الطعن في كتاب الله حسب جهلهم وتفريقهم بين آياته وكأن هناك آيات من الدرجة الأولى وأخرى من الدرجة الثانية حسب الحماقة التي فرضت عليهم من قبل أولياء نعمتهم حتى إنهم أرادوا تقسيم القرآن إلى عدة أقسام حسب ما يملي عليهم قادتهم وأولياء أمورهم كما يروغ لهم تسميتهم كما قال تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين***الذين جعلوا القرآن عضين) الحجر 90 -91. ثم إمتدت يد التقسيم إلى أسلافهم ومن سار على نهجهم، وكل هذا التقسيم الذي مارسوه بحق القرآن الكريم إلا أن أيديهم لا يمكنها الوصول إلى حرف واحد أو كلمة واحدة على أقل تقدير من النص القرآني مهما تبدلت الظروف وتغيرت الأحوال وأصبحت البلاد بأيد لا تمت للدين بأية صلة.
ورغم إختلاف المذاهب والفرق الإسلامية التي إختلفت حتى في أسماء الله وصفاته إلا أنهم أجمعوا على وحدة اللفظ وسنده ، وقد إمتدت يد الفرق والمذاهب على إختلاف مسمياتها إلى تأويل المعنى المراد من النص القرآني حسب الأهواء التي يتبعونها أو ما يفرض عليهم من الحكام ويخدم مصالحهم وإستمرارهم في سلطتهم إلا أن النص لا يمكن أن يطرأ عليه التحريف.
وفي وقتنا الحاضر أيضاً رغم الضعف الذي لحق الأمة والإنقسامات والبدع والإرهاب المجرم الذي إنتشر في جميع أرجاء العالم وكذلك إنتشار المنكر بين المسلمين أنفسهم وعلى إختلاف عقائدهم وتصوراتهم إضافة إلى إنحلالهم وتسكعهم وتعريهم عن كل القيم الإنسانية إلا أن أيديهم لا يمكن أن تصل إلى تبديل النص القرآني.
ولو كان هذا العمل متيسراً لهم لما توقفوا عنه لحظة واحدة كما هو الحال مع سنة النبي (ص) وكيف إمتدت لها أيادي ما يسمى بالمسلمين وكيف أنهم بدلوا الكثير من السنن التي سنها رسول الله دون مبالاة منهم وحرفوا الكثير من الحقائق والأحداث ولكنهم لم ولن يستطيعوا تغيير كلمة واحدة من النص القرآني الذي أنزله الله تعالى على رسوله الكريم (ص).وأنى لهم تغطية الشمس بأصابع خمس.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
https://telegram.me/buratha