( بقلم : سليم سوزه )
كنا قد تحدثنا في الحلقة الاولى عن النظرية الاولى للحكم، وهي نظرية ولاية الفقيه الخاصة، وتطرقنا الى فلسفتها في عملية ادارة الدولة والآن ننتقل لنرى ماهية النظرية الثانية والتي يؤمن بها فريق من علماء الشيعة الامامية وابرزهم السيد الخميني والشهيدين الصدريين الاول والثاني والسيد كاظم الحسيني الحائري مع آخرين غيرهم، وهي نظرية ولاية الفقيه العامة والتي ترى بوجوب طاعة الفقيه في الامور الدينية والدنيوية والتصدي للامور السياسية باعتباره الحاكم والآمر الناهي في زمان غيبة الامام .. اي انه يقوم مقام الامام في كل شيء اثناء غيبته.لم يكن هذا الرأي شائعاً عند الشيعة الامامية في السابق، بل نشط وتطور في المئة عام الاخيرة بشكل ملحوظ، حيث اعتمد الفقهاء المؤيدون لهذه النظرية على مقبولة عمر بن حنظلة التي تروي عن الصادق عليه السلام قوله في الفقيه الجامع للشرائط ( فأني قد جعلته حاكماً) وهنا ذهب هؤلاء الفقهاء الى ان المقصود بكلمة (حاكم) اعطاء الحاكمية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة بما فيها الحكم والادارة وليس القضاء فقط.
ان ما شهده التشيّع من مآسي وويلات وابادة منظمة من قبل الذين حكموا طوال تلك السنون المنصرمة كانت بحق سبباً آخراً بالاضافة الى هذا الحديث في تحريك وجدان العلماء والفقهاء نحو التصدّي لامور الحكم والتخلص من ظلم واضطهاد الحكومات المتعاقبة على الدول التي فيها عدد غير قليل من اتباع هذا المذهب. ففي ايران مثلا ً نشط روح الله الخميني في معارضة نظام الشاه الدكتاتوري الذي خنق الحريات الدينية واضطهد شريحة العلماء بنظامه العلماني القاسي رغم انه ينتمي الى نفس المذهب الذي ينتمي اليه الخميني .. فبعد نجاح الثورة الاسلامية وسيطرة ثوارها على السلطة تحت امرة الخميني اصبحت نبراساً لثورات عدة، حاولت القيام بنفس الامر في بلدانها ولم تقتصر على اتباع المذهب الجعفري، بل شملت حتى ابناء المذاهب الاخرى في دول اسلامية عديدة.اما في العراق فقد حاول من قبل الشهيد محمد باقر الصدر وهو من ابرز المروجين لهذه النظرية واهم منظريها، القيام بثورة مماثلة لتلك التي حصلت في ايران وانتزاع الحكم من البعثيين، الاّ ان بطش الحكومة الصدامية واستخدامها المفرط للقوة استطاعت ان تسيطر على الثوار في مطلع الثمانينيات واجهاض الثورة باعدام الصدر واخته، واعتقال كافة قيادات هذا التوجّه.
فلسفة المراجع الذين يؤمنون بضرورة تصدّي الفقيه للامور السياسية وفق النظرية الثانية، كانت تنبع من رؤية، بان الحكم بيد الفقيه على ما يكون من اخطاء و انتهاكات، فهو افضل بكثير من ان يكون هذا الحكم بيد الظلمة والفسقة مستندين في ذلك على ان دولة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام ودولة الخلفاء من بعده شهدت انتهاكات ايضاً وحصلت فيها اخطاء غير قليلة لكنها كانت في العموم تطبق الشريعة الاسلامية وتحكم بالقرآن، وهي بلا شك امور جيدة فالدولة لا يعقل ان يكون كل ابناءها صالحين، اي لابد من وجود الطالح والنفعي والانتهازي الذي يؤثر بصورة او باخرى على سمعة الدولة وهيبتها في اي نظام كان .. بما فيه النظام الاسلامي وهذا كان على ما يبدو رداً على الذي يقول بحتمية وقوع الاخطاء في دولة الفقيه (مؤيدو النظرية الاولى).يبدو ان هذا الفكر جاء كردة فعل لما اقترفته الحكومات بحق التشيع مذهباً وافراداً في محاولة استباقية لنيل الحكم من الظالمين وتأمين المذهب من شرهم حيث سيترك الفراغ السلطوي الناشيء من عدم تصدي رجل الدين، الفرصة الى من هو غير اهل لشغله وهذا ما جعل الجميع يدفع الثمن حسب راي انصار الولاية العامة اي انهم ليسوا طلاب حكم او سلطة مثلما يتصور البعض، بل يرومون انهاء الحيف والظلم الذي طالهم من باب اذا لم اتقدم انا فسيتقدم غيري واكون الخاسر عندئذ.
هذه هي الفلسفة التي يبلّغ لها انصار النظرية الثانية بلسان حال يقول (ما لا يدرك كله لا يترك جزءه) وما نستطيع انجازه بدولة اسلامية افضل بكثير مما يمكن ان نخسره تحت نظام يستعبد الاسلام ويقتل ابناءه، حيث يجب ان تكون هناك فرصة لهذا الدين في الحكم كي يصارع احدث نظريات العالم وفلسفاتها في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وبيان بان هذا الدين قد وضع كل شيء من اجل رقي الانسانية وتكاملها على مستوى الافراد والمجتمعات، ولا يكون ذلك، الاّ اذا كان حاكماً على الناس ومهيمناً عليهم.
https://telegram.me/buratha