( بقلم : د. سناء الحربي )
في الوقت الذي كانت فيه القاعدة كفكر و أدوات لفرضه غريبة كليا عن المجتمع العراقي بل لا توجد سابقة لها في المناطق التي ظهرت فيها و هيمنة عليها و أن أغلب قادتها و زعماء التنظيمات الملحقة بها هم من غير العراقيين فإن جيش المهدي كان هو الآخر ظاهرة غير مألوفة في المجتمع العراقي في الوسط و الجنوب حيث عرف عن أهالي هذه المناطق أنهم أناس مسالمون بعيدون كل البعد عن استخدام العنف وسيلة لتحقيق أغراض تتصل بالعقيدة المذهبية أو السياسية , و هم و إن عرفوا بمعارضتهم لاحتلال بلدهم و كشاهد على هذا الرفض ثورتهم الخالدة ثورة العشرين و كذلك رفضهم و معارضتهم للأنظمة القمعية التسلطية فإن العنف لديهم ليس ردة فعل عشوائية و لا هي أفعال غير منضبطة تقترب من الهمجية و الاعتباط بل كان وسيلة لقضية عادلة تبدأ بعملية طويلة من كسب المشروعية و الشرعية و الاطمئنان لها و من ثم النظر العميق و الموازنة بين حجم المصالح و حجم المساوئ المترتبة على حمل السلاح .
و هذا ليس أمرا بلا مسوّغ و لا سبب ، بل هو في الواقع نتيجة منطقية لتاريخ طويل من المعاناة و هضم التجارب فالمعلوم أن الشيعة عانوا على مر العصور من قسوة الجلادين و الطغاة فأثرت التجارب نظرتهم و أغنت فكرهم و باتوا يميزون بشكل فطري بين العنف المشروع و المنتج كونه معارضة مشروعة أو مقاومة و بين العنف الذي لا يعدو أكثر من أنه فعل همجي يتسم بالرعونة و يحدث دون أهداف واضحة و غير موصل لأي نتيجة إيجابية . و لكن هذا العنف و بهذا الوصف الأخير لا يختلف اثنان على أنه قد حصل بعد سقوط الصنم البعثي و على يد مليشيات جيش المهدي .. فهل لهذا من أسباب موضوعية مقنعة ؟
هناك عدة أسباب مسؤولة عن هذه الظاهرة التي لم نجد لها مثيلا في تاريخ العراق اللهم إلا ما حدث في نهاية القرن الثالث من قتال شيعي – سني في مدينة بغداد و الذي كان يشبه في الكثير من مقاطعه ما حدث خلال السنوات الماضية . يبدو أن من الأسباب المباشرة لذلك هو أن العقلية الصدرية كانت مهيأة لممارسة العنف بوصفه جزء من ثقافة النظام السابق و يتعزز هذا الطرح حين يعرف المرء أن الكثير من عناصر المليشيا الصدرية أو على الأقل كبار قادتها هم إما بعثيون في فترة ما سابقة أو مـتأثرون بفكر البعث و لا اقل من تقمص واعٍ لشخصية البعثي الذي كان مسيطرا و ذا سطوة و هيبة مفزعة في الأنفس ، أضف إلى ذلك اختراقها أصلا من قبل جهات أرادت إلحاق بالغ الضرر بالمكون الشيعي قبل غيره و إدخال البلد في طاحونة العنف الذي لا يستقيم معه للحكومة التي يمثل الشيعة الغالبية فيها أية فرصة للسيطرة و الثبات . فالبعثيون بعد انهيار نظامهم كان لهم أن يعارضوا و بكل الوسائل المتاحة النظام السياسي الجديد و من السذاجة تخيل أن آلافا من هؤلاء في المناطق الوسطى و الجنوبية سلموا للأمر الواقع و لم يبحثوا عن فرصة لعرقلة و إرباك الأوضاع .
من جهة أخرى فإن التيار الصدري تشكل في أعقاب مرحلة اسماها بعض الكتاب بـ " فترة السباب الثأري " و هي إشارة إلى أربع سنوات كانت خلالها ردة فعل أتباع السيد محمد صادق الصدر على اغتيال الأخير من قبل أجهزة أمن النظام البائد ردة فعل هستيرية تمثلت بالسب و الشتم و التسقط لكل المرجعيات و الرموز و حتى بعض الخطباء و غيرهم و تم تحميلهم مسؤولية مباشرة لمقتل السيد الصدر حتى كان من النادر و القليل جدا ذكر و تحميل النظام مسؤولية ما حدث بل صب جام الغضب على أناس هم أصلا ضحية لقمع النظام ، أسهم هذا الأمر في تبلور فكر أو قناعة تتمرد على المشهد الذاتي .. بعبارة أخرى سلطة المكون الشيعي نفسه أصبحت هدفا لأتباع السيد الصدر . و هنا سقطت أهم النقاط التي كانت تحسب بعناية لدى الشيعة في سجل مقاومتهم و مقارعتهم للظلم و الاحتلال وهي ميزان المصلحة و المفسدة من أي تحرك من هذا النوع .
و لهذا بات واضحا لماذا يتهم الصدريون كل من يتصل أو يتعامل مع القوات الأمريكية بكونه عميلا و خائنا مع أن مقتدى الصدر التقى مع جهات أمريكية في بداية الاحتلال حاله حال كل الرجال الساسة في البلد و هذا أمر صرح به مقتدى الصدر نفسه في لقاء مسجل له حين نفى رغبته في المناصب و الوزارات مستدلا على ذلك بأنه رفض عرض من وفد أمريكي زاره في مكتبه لتسلم منصب مهم و مرموق و لا شك أنها كانت زلة لسان فادحة للغاية . و على أية حال من الأسباب الأخرى هو تدخل دول الجوار و دعمها لأي كيان أو مجموعة مسلحة بهدف تخريب المشروع السياسي الذي تراه انه لا يصب في مصلحتها القومية .
https://telegram.me/buratha