المقالات

عندما كنت في الزنزانة (الحلقة الحادية عشرة) وأخيرا عدت فرحاً إلى الشعبة الخامسة!!


لقد

اتكأت على اثنين من الجلاوزة حتى وصلت بصعوبة بالغة إلى سيارة البيجو ٤٠٤ التي كانت تنتظر بالباب، كانت الأورام تعلو مناطق عدّة من جسمي، ولكن أغلبها تركّز على قدمي اليمنى فهي التي حمت اليسرى في الغالب ولا أبالغ أبداً لو قلت إنّ ارتفاعها ربما بلغ ٢٠ سنتمتراً، بحيث حينما جلبوا لي الحذاء كي انتعله لم استطع أن أدخل أطراف أصابعي في فوهته للألم الشديد الذي صاحب ذلك مما جعلهم يطلبون مني حمل حذائي، بهذه الصورة غادرت الشعبة الثانية، ولم أعد أفكّر بالغد، ففرحتي وزهوي عادت تملأ كياني في أني اجتزت الامتحان، وعليّ أن أتعامل مع الامتحانات القادمة بنفس الطريقة، فتكرار العذاب ما هو إلّا مجرد تراكمات ستنتهي بلا شك كما انتهى الذي من قبلها، والحال معها سينتهي حتماً فإما أن أقتل تحتها فأرتاح منها، وهو أمر كان كالأمل المرجو! فعبره سينتهي الألم والعذاب، فالموت ــ ولا شكّ ــ أهون بكثير من البقاء على هذه الوتيرة من الحياة، وإمّا أن يتعبون ويملّون أو يموتوا هم فأنجو منهم، وإمّا أن يحدث الله أمراً في طيّات الغيب فيتدخل عامل أخر فينهي العذاب بطريقة وأخرى، وبالنتيجة بيني وبين كلّ ذلك يبقى عامل الزمن، وعليّ أن أركّز عليه وأعين نفسي على انقضائه، وأتحامل عليه كيّ يمرّ وينقضي.

أصعدوني بالسيارة مصحوباً بالكثير من الألم والتوجّع، فبدني يهتف بكلّ بوصة منه بأنواع عدّة من الآلام، حتى أنّ أحد المرافقين هدّدني بالإعادة إلى الشعبة إن لم أساعدهم، وكان لهذا التهديد دوره السحري، فتحاملت على نفسي إلى أن وصلنا إلى بناية الموقف، وكم كانت رؤية البناية عزيزة علي؟ ولكن كيف السبيل لصعود الطوابق الأربعة عبر الدرج الطويل لها، فالبناية كما أسلفت سابقاً كانت مجرد هيكل تنتهي طوابقه الأربعة بقاعة السجن والزنزانات الانفراديّة، لذلك كانت تسمى بالهليكوبتر، على أيّ حال تمكنت من الصعود بشق الأنفس وكثير الألم وأنا متكأ على كتف أحدهم بينما كان يعينه الآخر الذي كان معه، وما بين الطوابق طلبت منهم أن يدعوني أرتاح لجرّ النفس ففعلوا ذلك مرتين، ولعلهم كانوا هم يحتاجون إلى ذلك أيضاً.

وما أسعد تلك اللحظة التي دخلنا فيها إلى الطابق الأخير، حيث سلّمني جلاوزة الشعبة الثانية إلى حراس السجن، كانت الساعة تقرب من التاسعة مساء، حين أغلق الباب دون أفراد الشعبة الثانية فبادرني رئيس الحراس مع غلظته المعهودة مع السجناء بقوله متعجباً: ماذا فعلوا بك؟ ثم أردفها بشتيمة خفيفة وهو يقول السبب كلّه منك، اعترف لهم وتخلّص منهم! واترك دور صناع البطولات وكأنّك بلال الحبشي! لم أبال به فلقد اعتدت ما هو أعظم وأشنع، كان كلّ شوقي أن أصل إلى البطانية التي أنام عليها، أوصلوني إلى الباب الأخير وهو الثالث فنادى حارس السجن على هولير الشاب الكردي الذي كان يعينني بعد التعذيب بتدليك جسمي وترويض عضلاتي، وقال له: استلم صاحبك، قفز هولير ومعه عدّة سجناء وهم يروني بهذه الحالة متعاطفين، فحملني هولير إلى محلي وكان قريباً جداً من الباب، ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك فلقد استسلمت من شدّة التعب لنوم عميق مع أنّي كنت أحسّ بهولير وهو يدلّك رجلي بالزبد الذي كان يبقى من الإفطار، وهذا دأبه في كلّ يوم من أيام التعذيب، استيقظت قرابة الحادية عشرة فانتبهت إلى أنّي لم أصل المغرب والعشاء بعد، فأدّيتها مع ملاحظتي أنّ الأوجاع خفّت إلى درجة كبيرة والأورام تقلّصت بشكل ظاهر، فتمكنت من الذهاب إلى المغاسل لوحدي، والفضل في ذلك كان لهولير الشرطي الكردي الذي كان من أربيل، وقد حكم بالإعدام لاحقاً، لعن الله ظالميه وقاتليه، واسكنه فسيح جنته، وما كنت لأنسى فضله أبداً.

تسلل في ساعات الليل كلّاً من الأخوين السيد نشيد الصراف والأستاذ عمران (حفظهما الله تعالى) وكليهما من دعاة الديوانية، وهما يريدان الاطمئنان، فطمأنتهما، وتعاقب العديد من السجناء وفيهم بعض الشيوعيين ومنهم سميدع وهو من الديوانية وقد حكم وجماعته بالإعدام لانتمائهم إلى مجاميع ما يعرف بالكفاح المسلح التي كان يقودها الكرديّ عزيز الحاج، ولكن تعبي أعادني إلى النوم مرة أخرى وما استيقظت إلّا قريباً من الخامسة صباحاً، فصلّيت الفجر ثم بادرت إلى القران الكريم واستفتحه كما هو دأبي في كلّ فجر، فخرجت الآية العجيبة التي تكرر خروجها عدّة مرات طوال هذه المدّة: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا ‌بُشْرَى ‌لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]! سرحت كثيرا مع الآية يا إلهي أيّ بشرى؟ وهذا العذاب يتواصل ويتصاعد وما من كوّة للفرج والخلاص منه، فاستعبرت، ثم تأمّلت في موقفي هذا وسرعان ما تنبّهت إلى أن الشيطان ربما يعبث بي من خلال إثارة هذه الأفكار، وتنازعت نفسي حالة من التردد هل أنّي محقّ في شكواي وتململي، أم أنّ هذا هو الشيطان الذي يضعني في هذه الأجواء ليعقّد عليّ المشهد الذي أنا فيه؟ أدركتني ألطاف الله جلّ وعلا حينما أنقذتني ذاكرتي التي أعادتني إلى ليلة البارحة حيث تعهّدت لله بالتحمّل والثبات، فلماذا أشكو وأتذمّر والحال أنّي نجحت فيما تعهّدت به، سجدت شاكراً لله، مع دموع كثيرة سكبتها وأنا اعتذر مما تلاعبت بي الهواجس الشيطانية… وكم كنت أحتاج إلى هذه الدموع بعد كلّ ما مرّ بي وما ولّده من الضغط النفسي الهائل عليّ، خاصة وأنّا سعيت جادّاّ إلى ألّا أبكي تحت وطأة التعذيب وشديد القهر والغيظ الذي كنت أتميّز منه ممّا أتعرّض إليه. 

وكنت أحتاج إلى هذه الدموع أيضاً لبهجتي وسعادتي من النتيجة التي حصلت عليها، فهي الأخرى كانت تلحّ على مقلتي بأن أذرف الدموع التي تمازج فيها الفرح والحزن، وحقيقة لا أتذكّر أنّي دعوت بالفرج من السجن وقتذاك، فلقد عدت إلى ذاكرة الأيّام التي مرّت، وما وصلت فيه إلى يقين في اليوم الثالث من دخولي السجن بأنّي في معرض الابتلاء الإلهيّ، وفق قاعدة ما قاله الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ ‌يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2-3] ولهذا عليّ أن أثبت قدرتي على التحمّل والصبر على ما تأتي به الأيّام، ولذلك كان الفرج وعدمه قد تحوّل في عقيدتي يرتبط بهذا البلاء وطبيعة أدائي فيه، ولذلك انقطعت عن الدعاء بالفرج إلى الدعاء القرآنيّ: ﴿رَبَّنَا ‌أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 250]، فعلم الله بحالي يغنيه عن سؤالي، ولكن يقيني أنّ لله أمراً في ذلك هو بالغه، مما يلزمني بأن أتأدّب في هذا المجال.

وأنا في غمرة هذه الأفكار والأحاسيس تناهت الأصوات وهي تعلن عن جلب الإفطار، وسبحان الله كنت قد نسيت نفسي بالأمس من أيّ طعام، ولذلك انتظرت الشوربا، وهي إنصافا لذيذة جداً! على أنّ متعهّد الطعام حينما رأى حالي أدخل لي المزيد وفي عينيه كنت أتلمس الشفقة والأسف. ومن الحقّ أن أقول أنّ الرجل كان دوماً له عناية بطبقي حينما أقدّمه له، فمثلاً كان يملأ الطبق باللحم، مع أنّنا في ذلك الوقت نشكّ بتذكيّة اللحم المقدّم لنا، لأنّهم كانوا يستخدمون اللحم المجلّد، فنتجنبه ونعطيه من يستسيغه، ولكنه ربما عرف من أنا، أو ربما لكونه شيعياً فتعاطف، والله العالم

ما أن انتهيت حتى بلغت الساعة السابعة تقريبا، وهذا يعني أنّ موعدي مع المجرم مصعب التكريتي سيحلّ بعد ساعة، فعادت معدتي إلى التقلّص، وقلبي إلى الوجيب، وأنفاسي إلى اللهاث، وما من شك أنّ وجهي كان يعلوه الشحوب، ليس مهماً عندي أن يعاود اللئيم جريمته، ولكنّ ما أقلقني هو جديده الذي توعّد به، وبقيت انتظر وأنا واقف قريب الباب، وتجاوزت الساعة الثامنة والنصف ولم ينادوا عليّ، ثم انتظرت وانتظرت حتى بلغت الساعة العاشرة والقلق ينهشني تارة، والأمل يحدوني أخرى، هل سيتركونني؟ أم أنّهم سيعودون لي؟ وما بين هذا وذاك تبيّن أنّ القوم قد قرّروا أن ارتاح يومي هذا، وما ارتحت من هذه الأحاسيس إلّا قرابة العصر، وكانت الاستراحة بالنسبة لي في ذلك الوقت أعظم هدية! في صبيحة اليوم اللاحق حين نودي عليّ كالمعتاد كنت أكثر استقراراً وحالتي أفضل مما كنت عليه بالأمس، وكم كانت دهشتي وفرحتي أنّي لم أر جلاوزة الشعبة الثانية وإنّما رأيت صادقاً وهو مراسل الشعبة الخامسة، وتصوّر أنّك تفرح للقاء أفراد الشعبة الخامسة؟ مع أنّك قد تستجير من الرمضاء بالنار، ولكن الإنصاف يدفعني إلى القول بأنّي استجرت بالنار من الرمضاء!

طمئنني صادق وقال: لن تعود للوحوش مرة أخرى فقد تم تحويلك إلينا بالأمس، في داخلي كان اعتقادي أنّ الشعبة الخامسة هي النزهة المفضلة عوض الشعبة الثانية، حين وصولنا إلى الشعبة الخامسة خرج من كانوا يعرّفونه بالذئب من غرفته المقابلة للدرج الذي يؤدّي بنا إلى غرفة التحقيق، وهو مدير الشعبة آنذاك المدعو سعدون صبري وعلى أوّل السلّم قال لي: هل أفلتّ منهم؟ أنصحك ألّا تجبرني على إرجاعك إلى مصعب مرّة أخرى! قال ذلك وولّى. كنت أسمع به، وكلّ من تحدّث عنه تحدّث عن شراسته وغلظته وبغضه للإسلاميين، ولكنها المرة الأوّلى والأخيرة التي رأيته بها.

استقبلني فلاح (وهو من أهل منطقة علي الصالح ببغداد) وكان يسب ويلعن مما رأى بي، وفلاح هذا غير فلاح الثاني، فالثاني أطول منه وأضخم، وكان هذا الأخير في أوّل يوم لي في الشعبة الخامسة قد استقبلني بضربة شديدة برقت من جرائها عيني ولكن يده ارتضّت فتوجّع من ساعته، فأصبح لديه اعتقاد أنّني أشوّر! حتى أتذكر أنّه قال للملازم بدر الدليمي سيدي هذا يشوّر دير بالك منه! وإنصافاً كان يتحيّن الفرصة في حال غياب البقية ليعاملني بشيء من اللطف على غير المعهود، مع أنّه من الماهرين جداً في التعذيب، ثم دخل اللعينان قدوري وصبيح، وكان الأوّل مفوض الشعبة والثاني رئيس عرفائها، والأوّل لعله أكثرهم حقداً ولؤماً، فنظر لي شزراً وقال وكأنّه كان يصرّ على أسنانه: للأسف أرجعوك لنا!

على أيّ حال انتظرت قليلا وأنا أتصوّر أنّ من سيقابلني هو بدر الدليمي، ولكن المفاجأة أنّ الجالس وراء اللوحة المكتوب عليها الاسم الوهميّ: فيصل هلال لم يكن غير نوري الفلوجيً.

 جلال الدين علي الصغير

يتبع باذن الله 

الحلقات السابقة..

الحلقة العاشرة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4614   

 

الحلقة التاسعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4606

 

الحلقة الثامنة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4535 

 

الحلقة السابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4140

 

الحلقة السادسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4132

 

 الحلقة الخامسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4117

 

الحلقة الرابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4093

 

الحلقة الثالثة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4078

 

الحلقة الثانية:https://www.sh-alsagheer.com/post/4067

 

الحلقة الأولى: https://www.sh-alsagheer.com/post/4052

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك