ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي ||
في مشهد إعلامي مشوّه ومُسيّس وممنهج حتى العظم، تتكالب أكثر من خمسين قناة فضائية على العقل الجمعي العراقي، لتعيد تشكيل وعيه وفق أجندات مشبوهة، تصوغ رأياً عاماً مزيّفاً، وتنفث سموم التشكيك في القوى الوطنية التي لم تكتفِ بحماية الدولة من الانهيار، بل حمت الأرض والعِرض، وحررت الديار من دنس عصابات داعش وأشباهها من مرتزقة الجولاني، ودفعت ثمن ذلك من دماء أبناء الجنوب، من شيعة العراق الذين وضعوا أرواحهم على الأكف ولبّوا نداء الوطن حين هرب البعض وصمت الجميع.
إنها حملة تستهدف جوهر الانتماء الوطني، وتطمس ذاكرة الانتصار التي سُطّرت بدماء الشهداء، في محاولة خسيسة لتجريد أبناء الجنوب من فضلهم، وتحويل من دافعوا عن السيادة والكرامة إلى متّهمين على موائد الإعلام المأجور.
إنها لعبة مكشوفة من قبل قناة UTV بشراء ذمم بعض الإعلاميين، وتحويلهم إلى ترندات تافهة في برامج ملوّثة بالسموم. وجرّ السياسيين الشيعة إلى فخاخ التنابز والتشظي، وإفراغ القضايا الأمنية والعسكرية الكبرى من جديّتها، وتحويلها إلى مادة للتهكم أو التسقيط، بل وتظهرها كحالة تهديد يجب اجتثاثه.
تتكرر مشاهد الماضي أمام أعيننا، وكأن عقارب الزمن تعاند التقدّم وتعود بنا إلى لحظات ما قبل الانفجار الكبير في عام 2012، حين جرى استثمار ساحات الاعتصام في الأنبار وغيرها كمنصات لإطلاق مشروع الأقاليم الطائفية، وإحياء خطاب الانقسام والتأليب الطائفي. تعالت حينها شعارات “قادمون يا بغداد” المسمومة، وارتفعت الشتائم من فوق منصات الخيام، لا ضد فساد أو ظلم، بل ضد مكوّن بأكمله، في استهداف صريح لوحدة العراق الاجتماعية والسياسية.
اليوم، تُعاد إنتاج تلك اللحظات بأدوات إعلامية جديدة، ولكن الهدف ذاته: تفكيك الدولة من الداخل، وكسر إرادة المكوّن الشيعي الذي تصدّى للإرهاب، وصان العاصمة، ووأد الفتنة قبل أن تكبر. الفرق الوحيد أن وعي العراقيين اليوم أكثر صلابة، وتجربتهم في كشف أدوات المؤامرة أعمق وأدق. لكن الفارق الجوهري بين الزمنين أن اليوم ثمة سلاح وعي وسلاح مقاومة قادر على إحباط المؤامرات في مهدها.
هناك رهان داخلي وإقليمي ودولي على تمزيق محور المقاومة. رهان تغذيه غرف مظلمة وموازنات مفتوحة. المال السياسي الذي سيضخ في الانتخابات القادمة كما يُضخ الوقود في محرك مأزوم، بغاية إعادة تشكيل المشهد السياسي وإزاحة قوى المقاومة من واجهة السلطة. ليس هذا فحسب، بل هناك من يعمل على فتح الثغرات الحدودية مع سوريا لتسلل جماعات إرهابية تعبث بالأمن وتربك التوازن السياسي، في تكرار مرير لسيناريو 2014، ولكن مع تغيير الأدوات.
الخطير في هذا المشهد هو خلط الأوراق بشكل متعمد: تسويق الحشد الشعبي كقوة خارجة عن القانون، وربطه برغبات إقليمية – أميركية وإسرائيلية – بينما الحقيقة أن هذا الاستهداف ينبع من أروقة عربية – مكوناتية – تحلم بإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 2003، لذلك يرون في سلاح الحشد خطراً وجودياً على مخططاتهم، لأنه ببساطة كسر مشروع التقسيم الطائفي، وأحبط أحلام الدويلات الطائفية والإرهاب العابر للحدود.
ما لا يفهمه هؤلاء أن الشيعة في العراق لا يملكون فقط سلاحاً، بل عقيدة راسخة استمدت روحها من دم الحسين (ع). عقيدة لا تُكسر أمام المال ولا أمام التضليل الإعلامي، لأنها ترتكز على وعي تاريخي وفهم وجودي لمعنى الدولة والمقاومة.
والأدهى من كل ذلك، أن هذه الحملات الممنهجة، بكل ما تحمله من تحامل وانتقائية، تتجاهل عن عمد سلاح البيشمركة، الذي لا يقل شأناً ولا تسليحاً عن سلاح الحشد الشعبي، بل يحظى بشرعية سياسية وشعبية كاملة داخل الإقليم، ويُقدَّم بوصفه رمزاً للحماية والكرامة الكردية، ونحن، لم نعترض يوماً على وجوده أو مشروعيته، فإن ما نرفضه هو الكيل بمكيالين: بمن يُرى في الحشد تهديداً، وفي البيشمركة تقديراً.
هذه الازدواجية في المعايير، ليست صدفة، بل انعكاس لخطاب انتقائي يُراد له أن يكرّس سردية مفادها أن سلاح الشيعة مشبوه ومرفوض، بينما سلاح غيرهم مشروع ومقدّس. وهي لعبة خطرة تمهّد لإعادة إنتاج معادلات الحكم على أسس مكوناتية مضطربة، لا على أساس الدولة والمواطنة.
وهذه القناة العوراء لا تتناول تقارير الأمن الوطني التي تكشف تغلغل الموساد في المناطق الكردية والسنيّة. ولا تناقش حالات الفساد في الجانب الاخر، فالحشد هو الهدف في أجندتها، فتسوقه يوميا عبر برامجها الهابطة ومن خلال جحوش الشيعة، على أنه خطراً كبيراً، لأنه ببساطة حجر العثرة أمام مشروع التقسيم والسيطرة، سواء بأدوات داخلية أو خارجية.
إن الحشد الشعبي ليس ميليشيا خارجة عن القانون، بل مؤسسة رسمية مرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة، لها قوانينها ونظامها وروحها. ومن يتعامى عن هذه الحقيقة، إما جاهل أو شريك في المشروع المسموم.
لقد آن الأوان لفضح هذه القنوات ومنابرها التي تلوّث العقل العراقي، والرد عليها بخطاب وطني نظيف وجريء، لا يستحي من إعلان انحيازه للحقيقة، ولا يساوم على دماء الشهداء، ولا يقبل بتشويه أقدس مؤسسة ولدت من رحم الخطر وكتبت بدمائها حكاية الانتصار.
https://telegram.me/buratha
