المقالات

عندما تهندس أفلام الكارتون كسلاح ناعم لتقويض فطرة الاطفال وتشكيل وعيهم المستقبلي

138 2025-05-18

بقلم : سعد صاحب الوائلي

 

في خضم زحمة الحياة اليومية، قد يعمدُ الوالدان او الاهل إلى التلفاز أو الأجهزة اللوحية او الهواتف الذكية كوسيلة لإتاحة فسحةٍ من الترفيه والتسلية لأطفالهم، ومن المفترض ان يكون هذا الترفيه وتلك التسلية آمنة وبرئية بصفتها موجهة لمخاطبة الأطفال.

ولكن مهلاً، ليس كُلُّ مُفترضٍ مُتحققا، فلطالما وجدنا الكثير الكثير من أفلام الكارتون وعلى مدى ربما أعوام طوال بل عقود تُعبَّئُ وتُحَمَّلُ بالكثير من المفاهيم التي لا تناسب عمر الطفولة، بل قد تُشحن بمفاهيم مخالفة للفطرة السلمية، ومنافية للنواميس والاخلاقيات الإنسانية العامة.

من هنا، فها نحن نجد الكثير الكثير من أفلام الكارتون و(افلام الاينيمي) ليست بالبريئة البتّة، وينبغي التوقف الحذر عندها، والإلتفات الى فحواها، بل إعمَالُ التفحص في فحوى معظم ما يعرض للإطفال على الشاشات الصغيرة والكبيرة، سواء أفلام كارتون او اينيمي، مما يبدو بظاهر الأمر أنّهُا أفلام كارتون و اينيمي بريئة وملونة وساخرة، وطفولية، لكن – الكثير منها- في حقيقة الامر تحمل ما هو أعمق من مجرد الضحك والمرح والمغامرة!!. أفليس من المنطقي التفكير بأن ما يُدَسّ في طيات تلك المسلسلات والحلقات الطويلة هو جزءٌ من الأدوات الناعمة المراد منها إعادة تشكيل وعي أطفالنا ومراهقينا؟ وهل يمكن لبعض الشخصيات اللطيفة أن تزرع أفكارًا موجهة داخل العقول الغضة والناشئة؟

 

هذه الأسئلة وغيرها، هي جوهر هذه الإلماعة التي نحاول من خلالها إستعراض نماذج يسيرة جداً من الكم المهول مما يتلقاه أطفالنا ومراهقينا بصورة يومية وعلى مئات ومئات الفضائيات والمواقع الالكترونية المليونية بشكل متواصل على مدار الساعة. ولعلنا سنقتطف قطرة من بحار هذه الأمواج العاصفة التي تفتك بعقول أطفالنا ومراهقينا، فنلتقط بعض الأمثلة اليسيرة لتكون مدعاة للباحثين والكاتبين وطلبة الدراسات العليا للبحث فيها واعمال التخصص الدقيق فيها كي تكون نتاجاتهم إسهامة في تخليص الأطفال والجيل من ويلات ذلك الغزو الناعم الهائل على العقول وعلى المجتمعات وخصوصا المحافظة منها.

من محيط الأمواج العاتية في هذه الحرب الناعمة، لنتلقط هذه الأمثلة البسيطة اليسيرة من غمرة ما يتلقاه صغارنا كل يوم. مثلا.. مسلسل (سبونج بوب) ومسلسل (بوبا) لنأخذ منهما نماذج صغيرة كدلالات من أفلام الكارتون الموجَّهة لأطفالنا، سنحاول هنا تسليط بعضاً من الضوء على ما بين طيات المشاهد البصرية، وفي تحليل يسير للرسائل المبطنة التي يتم تمريرها إلى الجيل الجديد.

حين يصبح الترفيه أداة هندسة اجتماعية:

لعل الكثيرين يتذكرون طرح جوزيف ناي في كتابه (القوة الناعمة ـ 2004)، حيث يشير الى إن التأثير الثقافي والإعلامي قد يكون أعمق أثرًا من أدوات القهر المباشر، وكذلك ما طرحه لورنس كولبرج في نظريته (التسلسل الهرمي للقيم)، حيث توصل هو وغيره بالاحصاء العملي الى كيفية إستخدام أفلام الكارتون في إختراق اللاوعي الجمعي. إنَّ ما نراه اليوم من أفلام الكارتون نجدها لا تُستخدم للإضحاك والتسلية وحسب، بل غدت أداة نفوذ ناعمة قادرة على إعادة تعريف المفاهيم داخل العقل اللاوعي للأطفال، إذْ تُمرر أفكار معقدة عن طريق صور ملونة وموسيقى مرحة، لتغدو أكثر قبولًا وتأثيراً، وهو بالذات ما رصده تقرير اليونيسف عام (2022) بصورة علمية، حيث أقرت دراسة متخصصة الحجوم الهائلة من الاثار السيئة والسلبية على الأطفال.

ليس بخافٍ، أن الكثير من أفلام الكارتون الحديث يتبنى توجهات تربك وتشوه الفطرة، وتعمل على صياغة القيم، وتزرع تصورات جديدة عن مفاهيم كـالأسرة، والحرية، وحتى الهوية الجندرية، ولكن بأساليب غير مباشرة لكنها فعّالة.

( سبونج بوب) ، السخرية من القيم وخلط الأدوار:

سبونج بوب، الإسفنجة الشهيرة، قد يبدو مضحكًا ومسليًا، لكنه في كثير من حلقاته يقدم محتوىً يحتاج لتأمل وتفحص. على سبيل المثال:

= في الحلقة (78) من موسمه الخامس، يُظهر مشهدا رمزيا لزواج (سبونج بوب) و(باتريك/ بسيط)، ما يقدم نموذجًا غير تقليدي للعلاقات الأسرية، وسخرية من الزواج التقليدي، في قالب ساخر لكنه متكرر!، في إشارات غاية في الوضوح وعبر لغة جسد صريحة لشخصيات المسلسل الرئيسة، الامر الذي يشكل دعماً سافراً وترويجاً فاضحاً للمثلية وللشذوذ الجنسي في طيات هذا المسلسل الشهير والمُتقبّل لدى ملايين الأطفال، فلنتخيل حجم ما سيتركه من آثارٍ وخيمة على تفكير الصغار، إذ يطرح لهم الشذوذ الجنسي كشيءٍ مقبول وبكل براءة خلال مشاهد هذا المسلسل، بل وفي غيره كثير.

= مثال آخر، في عدد لا يحصى من الحلقات، تتكرر عبارة (أنا لست طفلًا، أنا حر!)، في دعوة صريحة يومية متكررة لزرع التمرد كقيمة عليا لدى الطفل الذي يقتبس يوميا من هذه الحلقات الكارتونية، ليضع الأهل في موقع الخصم دائما، لا موقع الموجه والراعي.

= مثال آخر من آلاف المواقف، في إحدى حلقات الموسم السادس من هذا المسلسل الكارتوني، يتقمص سبونج بوب دور (امرأة) لفترة طويلة لأداء مهمة ما، الامر الذي يبعث برسائل مفادها إرباك الهوية الجنسية للطفل، وتدفعه للتساؤل حول طبيعة الأدوار (الجندرية!)، والتمهيد التدريجي لتقبلها كمفاهيم مجتمعية مطروحة منذ الصغر.

= كذلك، يتم تصوير الشخصيات العقلانية المتزنة مثل (شفيق/ Squidward Tentacles) على أنها مملة وسلبية وحزينة دائماً، في تهديد واضح للسلطة الابوية، بينما يتم تمجيد الشخصيات الفوضوية كسبونج بوب و(بسيط/باتريك)، ما يجعل الطفل ينفر من النظام والانضباط، ويمجد الفوضى، ويكره ملامح الجد لدى الكبار، ويعتبرها خرقاً لخارطة تفكيره التي يجهد المسلسل لاعادة ترسيمها وفق منهجية السخرية والفوضى والتشتت وسواه.

لعل بعض الدراسات رصدت بالفعل العديد من الآثار السلبية لمسلسلات الكارتون الموجهة وبينها مسلسل (سبونج بوب)، على سبيل المثال علّق أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، الدكتور عبد الستار إبراهيم، على هذا النوع من الرسائل بأنها: " تخلقُ تشويشًا قيميًا لدى الأطفال بنسبة تصل إلى 68%، لا يُلاحظ في البداية، لكنه يتراكم ويؤثر في تشكيل السلوك والوجدان".

رغم ان مسلسل سبونج بوب بمواسمه المتعددة غاصٌ حتى الركاب والركب بمشاهد موجهة مخزية موجهة لحرف براءة الطفولة عن فطرتها السليمة، لكننا سننتقل الى امثلة أخرى من مسلسلات كارتون أخرى، مثل مسلسل (بوبا) الحيوان المجهول ذو الذيل، تلك الشخصية الفضولية العبثيّة، الخرساء بفوضوية غامرة، شخصية متلفة حتى النخاع، مسببة للمئات من المشاكل طيلة السرد الكارتوني، كائن يفتقر للمسؤولية ويتصرف باندفاع دون أدنى نظر للعواقب الوخيمة التي يتركها في محيطه وأثاره المدمرة المخربة على من حوله.

هو مسلسل دون حوار، ليبدو أكثر براءة، لكنه من حيث التأثير فهو أشد ضررًا. لنقتطف منه نزرا يسيرا وقطرات من بحر تأثيره السيء على عقلية الأطفال.

= في إحدى الحلقات، (يدمر بالكامل مختبرا علميا)، حيث يدخل بوبا إلى المختبر ويعبث بالأجهزة حتى تدمر تمامًا، دون أية عواقب، او توبيح، بل يُحتفى به على أنه كائن فضولي ساخر ومضحك.

= تكرار أنماط كثيرة من سنخ هذا السلوك طيلة حلقات المسلسل في مشاهد التخريب والتدمير والتكسير دون عواقب، وتوجيه الأمور كأنها تسلية وسخرية وإضحاك وحسب، ودون حساب للعواقب السيئة التي ستترك في اذهان الأطفال عما يشاهدوه ويقتبسوه من هذا الكائن الذي رسم بشكل محبب وغاية في الوضوح والتجسيم ليعلق في اذهان الأطفال بشكل لصيق.

في إحدى الحلقات، يدخل أماكن مغلقة، يعبث بمحتوياتها، يفسد الأشياء، ثم يغادر ببساطة وسط ضحك الجميع، في حلقة أخر يداخل متجراً، يحطم البضائع ويغادر دون مساءلة، في أخرى يدخل محل لبيع الحلويات والمعجنات، يعبث بجميع المحتويات، ويخرب ويأكل دون حساب، ويحطم ما خلفه ويخرج مع ضحك وتندر في مشاهد تقولب التخريب بأنه (إبداع) وتخفف من وطأة الجنح والتجاوزات وتمييع وتضييع للحقوق كي ترسّخ في إطار (مبادئ!) في اذهان الأطفال خرقا لبراءتهم وطمسا لفطرتهم السليمة.

بالمحصلة، فهذا النمط من سلوك بوبا المتكرر، يعزز لدى الطفل سلوك (العبث المرح المؤدي للتخريب)، ويشوّه فهمه للحدود والقواعد. وهو ما أكدته دراسة ميدانية لجامعة الأزهر عام 2023، حيث تبين أن 62% من الأطفال قلدوا سلوكيات بوبا التخريبية بعد مشاهدتهم المستمرة له.

كما تشير تقارير اليونيسف لعام 2022 إلى أن التعرض المتكرر للمحتوى الفوضوي أو العنيف، حتى لو كان ساخرًا، "يضعف الضوابط الأخلاقية لدى الطفل، ويقلل من قدرته على التفريق بين المقبول والمرفوض سلوكيًا".

ولعل ما اوردناه من امثلة هو غيض من فيض، وقطرة من بحر الأمواج العاتية الموجهة الى اذهان صغارنا عبر هذه المسلسلات الكارتونية والاينيمي، إذا ما البديل؟ وكيف نحمي أبناءنا؟

فالمنع وحده ليس حلًا، بل لا بد من تقديم بدائل جذابة متقبلة، قد يكون واحدا منها هو دعم إنتاج أفلام الكارتون المحلية التي ينبغي ان تقدم فيها القيم الأخلاقية بطريقة معاصرة وممتعة.

كذلك يتوجب إدخال مفاهيم ومادة (التربية الإعلامية) في المناهج الدراسية الأساسية وكذا في الدراسات الجامعية الأولية وأشدَّ تركيزا في الدراسات العليا لتشخيص مكامن الخطر العديدة، وبالتالي وضع الآليات لتلافيها.

بالطبع، وقبل اية حلول، فإن تشجيع الأهل على انتخاب ما يشاهده الأطفال والمراهقين، هو صمام الأمان الرئيس في الحد من تعرض الأطفال والجيل لأمواج الحرب الناعمة التي تشن عليهم وعلى المجتمع ككل، والعمل بشكل جدي لفتح حوارات صريحة مع الأطفال حول مضامين وفحوى الرسائل التي يستقبلونها خلال ساعات مشاهدتم لافلام الكارتون بغية رسم صورة أخرى في الاذهان غير المرادة من قبل واضعي وصانعي أفلام الكارتون تلك.

لعل هذه الإلماعة قد تشكل خطوة او خطوات تعين الوالدين والاهل وتلفت انظارهم الى أهمية ووجوب إستعادة دورهم كمرشدين ومراقبين ومفلترين للحجوم الهائلة من الضخ الإعلامي الموجه لأطفالهم، وعدم الاكتفاء بدور (المراقب السلبي) كما نلمس ما تفعله عوائلنا وذوينا في اغلب الأحيان.

ختاماً، بصفتنا كآباء وامهات واعلاميين وباحثيين وعلماء اجتماع وعلماء نفس، كلنا مسؤولون، بأن نكون نحن من يحرس البراءة؟ فجميعنا لسنا ضد أفلام الكارتون، ولا ضد أفلام الاينمي، كوسيلة تسلية، وربما تعليم، ولكن نحن وجميع العقلاء والمصلحين ضد التوظيف غير البريء لتلك الأفلام والمسلسلات الطفولية الموجهة الملغّمة، فبنهاية المطاف، العقول الغضة لا تملك آليات النقد والفرز ودرء تأثير السوء الذي حُمّل وشُحِنَت به آلاف المشاهد في المسلسلات الكارتونية والاينيمي ، وبما حُمِّلَتْ من بذور أفكار يُراد لها ان تُثمر لاحقًا بصورة مواقف وسلوك متبنى لدى الجيل المستقبلي، وهذا ما نخشاه جميعا.

دون ريب، فإن براءة الطفولة لا ينبغي أن تُترك دون جدر حماية، فنحن بأمس الحاجة لنكون نحن من يتوى حراسة براءة الطفولة وصون الفطرة السليمة لديهم، لأجل إبقاء اذهانهم نقية متقدة لتلقي مفاهيم السلوك الحسن والعقلائية، ونعين الأبناء في رحلتهم الطويلة المقبلة في استكشاف العالم، لا أن نتركهم في مهب رسائل مُلَغَّمَة مُوَجَّهَة، قد لا نعرف من صاغها بالتحديد، ولا من يقف وراءها بالتحديد، ولا ندرك حجم المرامي الكبيرة وراءها، لكننا بتنا ندرك تماما انها ضارة بابنائنا وجيلنا، ولنجهد - وبالوقائع والأرقام- لكشف الاستراتيجيات الماكرة التي يتم استخدامها للتطبيع مع الشذوذ الجنسي ولنشر الفوضى الأخلاقية في العديد العديد من افلام الكارتون والاينيمي.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك