المهندس عمار الشويلي
لا تزال المجتمعات، رغم تطورها، تعتمد في قوتها وبقائها على علاقة متينة بين أفرادها؛ علاقة يتوارث فيها الجيل الجديد قيم أجداده وآبائه، ويحمل في قلبه مسؤولية الحفاظ على تلك القيم وتعزيزها. إلا أننا اليوم، في مجتمعنا العراقي، نجد أنفسنا أمام أزمة توتر عميقة بين الأجيال؛ أزمة تفرزها الفجوة المتزايدة بين ما يريده الجيل الشاب، وما يؤمن به الجيل الأكبر سناً. فما الذي أدى إلى هذا التباعد، وما السبيل إلى بناء جسور التواصل من جديد؟
إنَّ في زماننا هذا، حيث تتسارع الأحداث وتتوالى التغيرات، يجد الشاب نفسه تائهاً بين ما يجذبه من أهواء العصرية ومتطلبات العصر، وبين إرثه الثقافي، ذاك الإرث الذي تراه الأجيال السابقة حجر الأساس في بناء شخصية الإنسان. وبدلاً من أن يكون التفاعل بين الأجيال مساحة للتعلم المشترك، أصبح ساحة للمنازعات، وكأن كل جيل يميل للانغلاق على نفسه.
أزمة الثقة بين الأجيال ليست وليدة اليوم، فقد كانت موجودة منذ القدم، لكن ما نشهده اليوم يتجاوز كل تصور. الشباب، الذين نشؤوا في عصر الثورة الرقمية والتكنولوجيا، يحملون أفكاراً وتطلعات يرون فيها السبيل إلى حياة أيسر وأفضل، ولكن الأجيال الأكبر سناً تشعر بالخوف من هذا الانجراف السريع، معتبرةً أن تلك التغيرات قد تهدم الثوابت وتُضعف الروابط.
أضف إلى ذلك، أن العراق، بتركيبته الفريدة وموقعه الجغرافي، مرّ بتجارب تاريخية واجتماعية خاصة، كان لها أثر عميق في بناء شخصيته الجمعية. ومن هنا، فإن كل جيل يرى في نفسه حارساً أميناً على هذا التراث، ويرى في تغييرات الجيل اللاحق تهديداً لذلك البناء الثقافي.
إن بناء جسور التواصل لا يتم بالقوة أو فرض الأفكار، بل يحتاج إلى صبر ووعي. يجب على الشاب أن يدرك أن الآباء والأجداد لم يروا في تلك القيم التي تشبثوا بها قيوداً، بل وجدوا فيها مرشداً ينير لهم طريق الحياة، وينبغي عليهم احترام تلك القيم والبحث في معانيها العميقة، حتى يلمسوا فيها جوهر الحكمة.
ومن ناحية أخرى، ينبغي على الجيل الأكبر أن ينظر إلى الشباب بعين التفهم والتقبل، وأن يدركوا أن كل جيل يمر بتجارب مختلفة ويحتاج إلى أدوات جديدة لمواجهة تحدياته. قد يكون الشاب اليوم في حاجة إلى التكنولوجيا والانفتاح، ولكن هذا لا يعني تخليه عن جذوره، بل هو يسعى إلى التوفيق بين الاثنين.
علينا أن نخلق مساحات للحوار المتبادل، حيث يستطيع كل جيل أن يستمع إلى الآخر دون تعصب أو حكم مسبق. الحوار هو الجسر الأول لفهم وجهات النظر المختلفة. يمكننا الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة في إحياء التراث العراقي، ونشر قصص الأجداد بقوالب تتناسب مع عقول الشباب. كما يمكن تصميم مشاريع تطوعية تجمع بين الشباب والكبار، مثل الفعاليات الثقافية أو المبادرات البيئية، مما يخلق أجواءً من العمل الجماعي الذي يقرب وجهات النظر ويعزز الثقة.
في نهاية المطاف، نحن بحاجة إلى قلوب متفتحة وعقول واعية، قلوب لا ترى في الماضي عبئاً، ولا ترى في المستقبل تهديداً. إن المجتمع الذي ينجح في بناء جسور الثقة بين الأجيال، هو المجتمع الذي يضمن لنفسه البقاء والتماسك. لنكن نحن العراقيين مثالاً في ذلك، ولنكن طموحين في إعادة بناء جسور التواصل بيننا، حتى نكسب احترام الشباب لحكمة الشيوخ، ونُكسب الشيوخ احتراماً لطموح الشباب.
https://telegram.me/buratha