( بقلم : د/ عادل راضي الرفاعي )
لا استطيع أن أصف الأجواء التي اكتنفت مهرجان أبي الطيب في واسط لكن تناهى إلي أن نقع القطيعة لفَّ عمامة المهرجان وأن أسرة الاتحاد الأدبي لم تفد أحدا من أبنائها لحضور مهرجان النعمانية، أما أجواء متنبي سويسرا أجدني قادرا على إنصاف القول فيها لأنني نلت ضيافة ومشاركة في هذا العرس الثقافي.افتتاح المهرجان
ترحاب، وتضياف،و تألق ،وسطوع لشمس غربت في واسط، وسطعت في سماء زيورخ:
ألأبي الطيب كل ُّ هذا السحر؟قال نصفـَها موفق محمدوهو يكرع ُ قوافيَ ماليء الدنياوشاغل علي وصحبهِ ......
حروف المهرجان العربية واللاتينية تأتيك من بطون القاموس الالكتروني تتبدّى للوهلة صغيرةً نائيةً ثم تكبر لتأتلق مثل نجم وضّاء يتغنى في حركة تميس بروح الشرق وهداوة الغرب وتلك فكرة الأستاذة الغائبة الحاضرة الدكتورة أرسولا باخمان التي تغيب بريقها في دورة هذا العام لاشتراكها في معرض تشكيلي في مصر. العلاقة بين الشعر والمسرح توأمة حرص الدكتور علي الشلاه على تفعيلها من خلال المنشط الشعري والنقدي لهذا العام.
شعراء أوربا:
برودة وصقيع وبساط أخضر وسلوك هاديء ووجه حسن تلك أبجدية الطقس الغربي مظلة نشرت أفياءها على الشعراء المشاركين حيث نداوة المشاعر ورقة الإحاسيس وصدق الوجدان وسيولة الصور . جوان مرغاريت شاعر أسباني له حضور في المشهد الشعري الحديث في أسبانيا قرأ قصائد ذكرتنا بأدنلسيات العرب يوم كان الأدب قامة عالية في غرناطة وبلنسية وأشبيلية يقول في حلم ليلة صيف :
أوقفنا السيارةبجوار هذا الجدار الطويل من أشجار الحورمنذ ثلاثين عاما نعيش معاكنت شابا بلا تجربة وأنت كنت شابةمهجورة وساخنةظلال الفرصة الأخيرة تمضي لحجب القمراليوم أنا شيخ بلا تجربةوأنت امرأة كبيرة مهجورة
كما الشمس تغيب والأزهار تذوي وتنصت إلى رسول الذبول فهذا العمر يرسو على ضفاف الشيخوخة بعد أن غادر الصبا وعنفوان الشباب كل هذا قدّمه الشاعر في استرسال حكائي سيطرت عليه دلالات الماضي.ومما اكتسى به المهرجان لهذا العام وجود شيخ الشعراء التشيكي جوزيف هروبي الذي احترف الترافع عن الثقافة الإنسانية وكل ما يمت إليها بصلة :
ومن جديد يصدرون حكمهم مدى الحياةالشعر مغرم بهكذا أحكاممدى الحياة ..... حكم يثير شهية الشعر
نعم شهية الشعر تصل حد الشراهة في التهام الكلمات حينما تتنغص الحياة بأحكام الإزالة والتنحية لا أعني تنحية النثر على حساب ولادة الشعر ولم أقصد إزاحة الشعر العمودي أو التفعيلة -ــ ريثما تنضج قصيدة النثر ويصبح لها ستة عشر بحرا تبدأ ببحر المنفلت من القافية وتنتهي ببحر المتمرد على الوزن-ـ وإنما تنحية الجنس الإنساني والثقافي والأدبي.
وجدير بالذكر أن سيما التأثر بالفكر العربي الإسلامي كانت حاضرة في نتاج الشاعر فلوريان فتش حيث أفاد من النفحات الصوفية لابن عربي :
إشراقة لإحدى بسمات بُخارىماسٌ يتألق على الجباهِ يسطع يتقّدبينما ينطلق اللسان الوردي يتكلم:اللهُ نورٌهكذا تقريبا قال الكبير ابن عربي.
إن التجلي والإشراق والنور والسمو والمريد مصطلحات صوفية تسربت إلى مناجم الشعراء فأخذوا يصهرونها مع معادنهم بل كسوها لونا زاهيا قشيبا يبعث في النفس أملا وخلاصا .ولم يكن فتش الشاعر الأوحد الذي احتثت قريحته وشحذت مكامن التأثر لديه ليقتفي الإِشراقات الصوفية عند ابن عربي والحلاج وإنما هو نظام نهجوي على سبيل التلاقح والتداخل والتأثر والتأثير بين الثقافات والآداب بعضها مع بعض.
وكانت الطبيعة النمساوية بادية ً في أشعار انغريد فيختنر حيث أطلت على الكون من نافذتها المستوحدة لتجعل الطبيعة أريكة ً مورقة بالخطوط الخضراء :
اليدُ فقط تستدير إلى الأعلىفي باطنها تضيء الخطوط وقت الحقيقةأنا استلقي على حافة الكون
كما قرأت الشاعرة السويسرية كلير كرنبول نصوصها بالفرنسية لتجعل المتلقي العربي مترقبا الإنشاد المتميز والترجمة المزيلة لغيوم الإبهام من خلال الإنصات للاستاذ الناقد أسامة الشحماني الذي أضفى على المهرجان لمسة عراقية تذكرنا بعنفوان أبي الطيب:
أي من هذه الكلمات ينتظرني .... ولا واحدةوحده ذلك الهلال المرفوع على ثياب ظلام هذا الليل منفردا يربض على الجانب الآخر من البحيرةوكأنه طوفان من ضياءوربما تلك الوردة المنتصبة قبالة المرآةوهي تقف شبيهة ً بسيف رومانييلاعب نيران شتائه الأخير ويدرك كونه سيد هذا السكون
نفي وإثبات ... نفي لجميع الكلمات وإثبات لاثنتين : هلال ائئتزر ليلا حالكا ووردة تحاكي سيفا تمطى وناء بسيادة هذا الكون.
شاعران خليجيان :
ارتما في أحضان التجديد الشعري فأولدا صورا شعرية مفعمات بدلالة رامزة و أيقظا بنصوصهما ذهنية المتلقي وطفقا يرسلان ألقاُ وضّاءً يبدّد نقع الصحراء وكأنما أخذا على عاتقهما إزالة التصحّر الذي اكتنف القصيدة الخليجية طيلة عقود من الزمن ...إبراهيم الحسين شاعر سعودي مجدد نما وترعرع في أزقة الإحساء الوديعة ليسطع في سماء الحداثة ويصهل بالقصيد عبر أشواك الصبير كي يستحيل شقائق إحسائية :
صدفة ٌ أن نصحوَ وصدفة ٌ أن نحلمَأن نعثرَ على أيدينا بعد النوم ِوأن نتأكدَ من أن يداً لم تمتدْ إليهالتسرقها أو تُخفيها .... الصدفةُ نضجُ السعي إليها.
رسالة بليغة لزمن ( اللاثقة) ولقطة يضعها الشاعر قبالة َ حارس يوقظ ويُنيم ، الاحتمال مرتكز القصيدة والصدفة ُ ملحٌ وسكرٌ ، لفظ ومعنى، روح وجسد.
وكل هذه الأشياء صدفات نحن لا ندفنُ جثثاًنحن ندفن الصدف التي اكتملت.
وإذا كان إبراهيم الحسين قد دفن صدفَهُ الناضجة فإنّ نشمي مهنا الشاعر الكويتي بعث الصدف من جديد وشحنها حباً ورمزاً لتزهرَ أملاً وبرداً.
تمسحين وردة الليل بأصابع تُشبهُ وحشة َ الليلِوتنامين وتتركين َ لي وحدي حرية الأرقِحرية الأرقِ...لا أنجو منكِ ولا أرجو النجاة َ
أنا أقرأ في هذا العندليب الوديع:
رفضٌ مع سبق الإصرار والتلذّذ وبينهما لاءان ونجاةٌ ،وهناك نوخذةٌ متيّم يستدرجه بحرٌ فيأتزر قافية ووترا.
عراقيون وعرب :
قرأت في كتيب المهرجان أن الشاعر حسب الشيخ جعفر ستحتفي به خيمة المتنبي وسوف يعرض نتاجه منشدا متغلبا على وهنه ومرضه لكن التعب كان أٌقوى من همته والمرض ألجأه إلى عكازته فغاب عن المهرجان ، وكذا غاب سنان العزاوي فأوصدت أبواب الحدود أمامه فأعيد مجبرا لا بطلا كما تغيب تجم الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين ً. أماالدكتور خزعل الماجدي فقد خطف إعجاب الحضور وتملك مشاعرهم لكن هذا لا يضاهي اختطاف ولده مروان من قبل تماسيح الإرهاب :
ماذا جرى ... هل انطفأتْ عيوني ؟إذن أين عصاي أتوكأ عليهاوأهشّ بها طيور الظلام التي تهاجمني؟وماذا على الأفق أنطرهُ ؟ولدي أم قميص مدمّى؟أم البرقُ يطرقُ كومَ الشتاء الطويل فمن ذا؟ ...........ربتّ ُ على كتفيه وعانقته : لقد أدميت قلوبنا با أبا مروان حفظَ اللهُ ولدك منهم مثلما حفظ يوسف في غيابت الجب...... الدموع فاضت بها محاجر الجمهور السويسري وسمعت من هناك نشيجا عربيا لعلّه قادم من جنائن بابل يسوقه غمامٌ تراجيدي.
أضلّ َالحزنُ الطريق َوارتمى في قوافي الفراتينِلكَ اللهُ مكفكفاً دمعـَكَ ياعراقُ
الشاعر محمد أبو سنة شاعر مصري وظف التاريخ في قصائده توظيفا ناجحا وأبرز حضارة النيل في أسلوب كلاسيكي نأى عن الصور المجازية:
كان الإسكندر بعرف رغم الفتوحات أن المدن نساءٌ يراوغن َ عشاقهنّ َولا يحتملنَ طويلا سوى شوقهنإلى القادم المنتظر.
ولم تغب عن المهرجان النساء الشواعر فاتحة مرشيد طبيبة مغربية جمعت بين المهنة الإنسانية الطب والشعر ومازجتهما بروعة الأداء وجمالية الإلقاء لتحيل الأوراق إلى صفحات عاشقة وقزحيات ملونة:
لماذا كلما استهواني المدى يأسرني الجسد؟كي تحيا ... كما الموجينفث أنفاسه الأخيرة على الرملالذي لايرتوي أموت مراتٍ لكي تحيا..
أما الشاعرة السورية الكردية خلات أحمد فقد بهرت الحضور بتلك التوليفة الملونة من القصائد المتآلفة ورقة الإلقاء مفيدة من المثولوجيا الكردية وحكايا الأجداد:
كالمجدلية انتظرتهُصباحَ عزلةٍ متقدٍ وفي يدي وردةٌأباعدُ الأشياءَ عني وطفلهُ الحزنُينمو في أحشائي الحارة.
مسرحة الشعر وشعرية المسرح:
يحرص الدكتور علي الشلاه في كل دورة مهرجانية على خلق توأمة وعلاقة بين الثنائيات المعرفية ؛ الشعر طرفها الثابت والطرف الثاني متغيرٌ يكون رواية ً تارة ودينا ً تارة ًأخرى ويكون موسيقى مرةً ومسرحا مرةً أخرى وهكذا ارتكزتْ الجلسة النقدية لهذا العام على اقتفاء أثر التعالق بين الشعر والمسرح.إلى أينَ يسير المسرحُ؟ إلى أينَ يسير الشعر؟ والأجدرُ أين بدأ المسرح لا من أين جاء المسرح؟ تساؤلات مشبعة بالتقرير والجزم كما يقول الأسلوبيون كونها تعتمد على الاستفهامات المتتالية المتأرجحة بين الماهية والكيفية كانت هذه التساؤلات قد طرحتها الشاعرة أنغريد فيختنر لتكون مفتتحا للجلسة النقدية التي أدارها بنجاح الدكتور ادوارد بدين والدكتوره إلهام المانع . وخلال ورقتها دعت فيختنر إلى تأسيس اتحاد أدبي أو اتحاد الشعر العالمي على غرار اتحاد كرة القدم العالمي مستهجنة تهافت الناس على هذه اللعبة وعزوفهم عن قراءة الشعر هذه الدعوة لقيت ترحابا ومساندة من الحضور لانها تجمع الشتات الأدبي في قبة شعرية .أما ورقة الدكتور الماجدي فقد أرجعت أصول علاقة المسرح بالشعر إلى الحضارة السومرية والبابلية مرورا باليونانية وفيها طرح الباحث أربعة عناصر رئيسة للعلاقة رائيا أن المضمون الشعري ينبغي أن يحل مكان النظم الشعري مثيرا تساؤلي ومداخلاتي له: بأن النظم عنصر أساسي في العلمية الشعرية ولا مضمون بلا نظم كالجسد يغدو باليا بلا روح. بينما تتبع الشاعر محمد أبو سنة الجذر التاريخي لعلاقة الشعر بالمسرح من خلال الأدب المصري الحديث واقفا على جهود أحمد شوقي في ترسيخ هذه العلاقة. كمارأت الدكتورة فاتحة مرشيد أن الشعر ثقافة حياتية ضرورية وهو قيمة عليا تكتسب نماءها من علاقتها بالفنون الأخرى.وقد تداخل المخرج السويسري بيتر براشلر مع المشاركين حيث جعل اللغة الحاكية باليد والإشارة أداةً للبيان لديه متلبسا الحالة المسرحية بصورة حكائية ليبرق الجميع ان الشعر والمسرح متعالقان من زمن بعيد. وفي خاتمة الجلسة بعثتُ طمأنة ً للأدباء والنقاد مفادها أن التآزر والتلاقح والتمازج بين الأجناس الأدبية هي حالةٌ صحية تعود بالثراء الكبير على اللغة والأدب والدراسات النقدية وتعطي فائدة جليلة تحتث المتلقي لتتبع هذه الثنائيات بشغف ونهم.
د/ الشلاه شاعراً ومسرحيا
يسيرٌ على المرء أن يزرع نبتة ً في حديقة بيته لكن هذا الأمر يبدو عسيراً حينما تنبتها في تربةٍ مجدبة من حيث افتقارها إلى لغة الضاد والناطقين بها فلم يتشافه القوم بلغة العرب ولم يألـّفوا فيها نتاجهم وإنما الأمانية والفرنسية والإيطالية تنتشر في هذه الربوع الغربية، وهكذا لم تكن مهمة الأكاديمي د/ علي الشلاه سهلةً ويسيرةً حينما انتقى سويسرا لينبت فيها بذرة أبي الطيب لتستحيل أزاهيرَ فاحت أدباء وشعراء ونقادأ ومسرحيين وروائيين وساسة الأمر الذي أثرى المشهد الثقافي في زيورخ وبازل وبيرن وجنيف ولوكانو مما جعل خيمة أبي المحسد شامخة بين شاهقات المدن.ولم تكن اليد الواحدة لتصفق لولا مظافرة أخواتها وأعني الجمع النشيط من أبناء المتنبي لاسيما المتألق الودود أحمد الإسماعيلي وأسامة الشحماني وقاسم البهادلي وستار الساعدي حسين الإسماعيلي عماد الفحام وعباس الناصري وغيرهم ممن تقرأ في عيونهم وطناً مشرقا نفض عنه نثار البرد والاغتراب ليرددوا ترنيمة صاحبهم:
ورحتُ أصرّفُ كلّ زمانٍبوقتٍ عراقيوطنٌ لا ينام به النخل إذْ تنتشي بالنعاس العيون [ غروب بابلي ص5]
وكم أدهشني ذاك الأداء الرائع وهاتيك الانفعالات المتوالية والمشتركة بين الشلاه المسرحي وبين الممثلة التركية بردا في عرض مسرحي أسماه [ ارتباك ] باثا إياه بعض نصوصه الشعرية :
بكتْ عتبة ُ البابِ لمـّا رأتنيوصاحتْ لماذا أتيتَ....؟لقد ضاعَ وجهي وضيعني ما عرفتُوأنكرني من رأيتُ [ البابلي علي ص5]
إيجازاً وإنصافاً: إذا كانت عتبة الباب قد بكت في شرائع معلقة ببابل فإنها ابتسمت في زيورخ لانها احتفت بأبي المحسد وضيوفه :
ويمشي الفراغ ُ يصيرُ المكان زماناًوتنكسر الأزمنة وحده يبقى " أبو الطيب فينا" [ البابلي علي ص60ٍٍ]
د/ عادل راضي الرفاعيالسويد / ستوكهولم
https://telegram.me/buratha