علي عنبر السعدي ||
التسامح بمدلوله الأخلاقي / الثقافي وبعده الاجتماعي ، إنما يتمظهر واقعاً بغفران الإساءة ،أيّاً تكن عناوينها ومصادرها ، وفي العادة ، تنتشر ثقافة التسامح حينما يسود نوع من التكافؤ بين أطراف مختلفة بعد نزاعات لم يتمكن فيها أي طرف من إخضاع الآخر بشكل حاسم ، الأمر الذي يجعل التسامح ثقافة تتسم بالثبات والتجذّر، طالما بقي الإعتراف بالتكافؤ قائماً، أي ان التسامح هنا ، يأتي كحالة ضرورة يحتمّ قيامها وجود أطراف متناظرة ، وبالتالي فهي سمة بشرية تجد مباركتها في التشريع الديني ، الا ماكان مصدره الله ، فيسمى (مغفرة ) حيث لا تكافؤ بين الخالق والمخلوق ، أما التعصب والانغلاق( الفكري ، الاجتماعي ، المعتقدي ) الذي يشكل أهم مصادر العنف تجاه الآخر المختلف ، فربما استلهم مقولاته الأساسية استناداً الى نظرية " الاصطفاء " التي تجعل شعباً أو أمة دون سواها ، مختارين ومفضلين عند الله ، ومن الطبيعي ان تشكلّ تلك المقولة مصدراَ مهماً لانشقاقات لاحقة – دينية أو عرقية أو طائفية- مترافقة مع سلوكيات من نوع الاستعلاء والشعور بالتميّز والعنصرية وغيرها من الظواهر المضادة للتسامح ، وهي التي ولدت من رحمها حركات " قدسّت" العنف المؤدلج والمؤطر والمسيس --الخ ، باعتباره الركن الأصلب من أحادية عقائدية مطلقة الصواب .
تذهب بعض الآراء ، ان تجسّيد العنف في الموروث الإسلامي ، كان في مصدره حديث " الفرقة الناجية " الذي اتخذته الحركات التكفيرية والمتشددة عموماً، سنداً فقهياً وتشريعاً دينياً ، فمادامت القاعدة الدينية تنصّ على ان الله لن يسبغ رحمته – أي لن يتسامح في المعنى البشري – الا مع فرقة واحدة لها الحقّ في ما تفعل وتشرّع باسم الله ، لذا فكلّ المختلفين معها ، هم على ضلالة ولو كانوا من المسلمين .
والتسامح ان صدر عن قويّ مقتدر تجاه ضعيف، يسمى (العفو) وهو معنى أو مفهوم حقوقي تمارسه سلطة أو قوة تمتلك استطاعة تنفيذ عقوبة مستحقة على ما ارتكبه المعفو عنه من جرم ، فيما التسامح ظاهرة تربوية إجتماعية تزدهر في الغالب بين شعوب أو أمم استقرت بعد اضطراب .
الملاحظ في هذه الحالة ، ان كلا المصطلحين ( التسامح والعفو ) ينطلقان من القاعدة إياها مع فارق في الشكل ، ففيما يعلن "العفو " حيثياته ودوافعه بشكل ظاهر، يضمر التسامح ذلك ضمناً ، على رغم انهما يتشابهان جوهرياً بافتراضهما المسبق ان الآخر ارتكب ذنباً ، أي انه خرج عن قاعدة اعتباره متطابقاً أصلاً، لذا تسامحنا باختلافه أو إعتبرنا ذلك الإختلاف أعوجاجاً في الأصل يستوجب التقويم ، وان ارتضينا وجوده وقبلنا الاعتراف باختلافه ، فذلك نابع لعجزنا عن قهره أو للتكلفة الباهظة ثمناً لقهره ، لذا ينشأ التسامح إجمالاً ، مع عدو زال خطره أو خصم أمكن حياده - أو ترجى صداقته أو فائدته .
كان التسامح والحالة هذه ، دعوة إصلاحية ملتصقة بأحلام الفلاسفة وأخلاقيات الأتقياء ، ومادامت تقوم في الجوهر على قاعدة التماثل المفترض والاختلاف المفروض ،فإنها ستبقى عرضة للتهشّم والانهيار ،حال الاختلال في موجباتها، أو فقد التوازن بين أطرافها ، انها أقرب الى معاهدات تمليها الظروف والمتغيرات ، منها الى ثقافة تأصيل يترسخ في حياة البشر – مجتمعات وأفراداً – لذا وعلى رغم شفافية مفردة التسامح وإيحاءاتها النبيلة ، الا انها تبطن متجهاً آخر يدين الاختلاف ضمناً باعتباره لايستقيم مع التماثل ، وهي مفارقة ربما تلقي الضوء على إشكالية ماتواجهه ثقافة التسامح ، إذ ان الآخر ليس مخطئاً في اختلافه معنا ،ولا نحن مخطئون كي نتسامح ، فالأصل القبول والاقتناع المطلق بأن الاختلاف – في معنى التنوع – هو التعاون والتكامل الإنسانيين، أي جوهر الحياة وغنى الحضارة ، وليس غصناً أعوج ينبغي تقويمه .
ــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha