المقالات

العمق التاريخي للخلل السياسي (٢)


 

محمد عبد الجبار الشبوط ||

 

تفاقم الخلل الحاد في الجانب السياسي للمركب الحضاري في المجتمع العراقي طيلة حكم العائلة العباسية الذي امتد لغاية سنة ٦٥٦ هجرية الموافق لعام ١٢٥٨ ميلادية.

وقد تمثل هذا الخلل في اقصاء المجتمع عن الشأن السياسي، الذي يقابله استبداد الحاكم الذي كان يحمل لقب خليفة رسول الله وامير المؤمنين.

وكان من مظاهر هذا الخلل السياسي: الحكم الوراثي، والتوريث لاكثر من شخص ضمن اطار ولاية العهد، والصراعات بين الامراء داخل الاسرة الحاكمة نفسها، والصراعات بين مراكز القوى السياسية والعائلية والعسكرية في الدولة وعزوف الناس عن المشاركة بالقضايا السياسية العامة، والقسوة والبطش على الرعية والمعارضين (وهذا من لوازم الاستبداد)، والاقتتال الداخلي على اكثر من صعيد، وغياب اي شكل من اشكال المؤسسات التمثيلية.

وكان من النتائج السياسية لذلك، ضعف مؤسسة الخلافة ووقوعها تحت تأثير الامراء العسكريين والوزراء و تمزق الرقعة الجغرافية للدولة بقيام دويلات صغيرة و تقلص مساحة دولة الخلافة وضعفها امام الغزو الخارجي واخيرا سقوط الخلافة العباسية نفسها تحت الاحتلال المغولي.

وقد صاحب الاستبداد السياسي استبداد ثقافي/ ديني تمثل في دخول الدولة على خط القضايا الدينية والثقافية مثل قضية خلق القران، واغلاق باب الاجتهاد، وغير ذلك.

ومما يمكن ملاحظته في تلك الفترة غياب الثقافة القرانية المعارضة للاستبداد وعدم تداول الافكار المهمة الواردة في عدد من الايات القرانية مثل:

اية الاستخلاف: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".

اية الشورى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ".

اية ولاية المؤمنين على انفسهم: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".

اية مسؤولية الناس عن اقامة العدل: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".

وغيرها من الايات المشابهة التي كان من شأن تفعيلها في الوعي والسلوك ان توجد مناعة مجتمعية ضد الاستبداد وتحمي المجتمع من مرض "العبودية الطوعية".

ولهذا لم نجد حركة شعبية واسعة النطاق للمطالبة باعادة السلطة الى الشعب او "الامة"، بما يكفي لاصلاح الخلل الحاد في البعد السياسي للمركب الحضاري للمجتمع العراقي انذاك.

ولا نعثر على ثقافة سياسية سائدة تستوحي الايات السابقة، وخاصة اية الاستخلاف التي كان ينبغي ان تشكل سدا منيعا امام الاستحواذ على السلطة والانفراد بها. بل ان مثقفي ذلك العصر، وفي مقدمتهم مفسرو القران، لم يفهموا من تلك الايات ما نفهمه نحن الان منها.

فعلى سبيل المثال، فان قصارى ما فهمه ابن  كثير من اية"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة"، قوله:"قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل". او ما فسر به الطبري الاية بقوله:"أي مستخلف في الأرض خليفة ، ومصير فيها خلفا"..."من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر ، إذا قام مقامه فيه بعده". وقال القرطبي:"هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة..."

وشاعت الثقافة السلطانية التي جسدها على سبيل المثال علي بن محمد الماوردي (٣٦٣-٤٥٠ هجرية) في كتابه الشهير "الاحكام السلطانية"،  الذي قال فيه ان الامامة تنعقد بوجهين احدهما باختيار اهل الحل والعقد، والثاني بعهد الامام من قبل، واللافت للنظر انه سارع الى رفض الرأي القائل بان الامامة لا تنعقد الا بجمهور اهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاما والتسليم له اجماعا قائلا "وهذا مذهب مدفوع .."، اي مردود، دون ان يرد على القائلين بصحة انعقاد الامامة بخمسة او ثلاثة او حتى بواحد! لم تكن فكرة الانتخاب العام واردة في العقل السياسي العراقي طيلة حكم العائلة العباسية!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك