حمزة مصطفى||
في عام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان كتب محمود درويش "ذاكرة للنسيان". قصيدة نثرية تشبه أن تكون مدونة للحرب الأهلية اللبنانية يتحدث فيها عن "هيروشيما". بعد نحو 38 سنة صدقت نبوءة الشاعر تماما. الغزو كان وقع في شهر آب عامذاك. لكن الإنفجار الذي يشبه هيروشيما وفقا لكل المعايير والمعادلات والصور والدلالات وصف بأنه يشبه ماحصل لهيروشيما. وكالات الأنباء والمدونون والمحللون والخبراء الإستراتيجيون أطلقوا على ماحصل الثلاثاء الماضي في بيروت بأنه ثالث أقوى وأعنف إنفجار بعد هيروشيما في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية عام1945 وقد إنتهت الحرب إثرها بإستسلام اليابان, وتفجير برج التجارة العالمي في نيويروك عام 2001 والذي تغير العالم بعده الى فسطاطين بلغة وتعبير كل من بوش الإبن وأسامة بن لادن وقد حصل بعدهما ماحصل. إحتلال أميركي لكل من إفغانستان (2002) وللعراق (2003). درويش البارع في صنع الصور من الكلمات إستبدل المكان بالزمان عبر سردية قابلة للحفظ والإستعادة كلما عددنا النكبات العربية طوال أكثر من سبعة عقود من الزمن. العنوان لتلك الذاكرة التي أرادها للنسيان هو "المكان آب, الزمان بيروت". بالفعل بيروت ليست مكانا بقدر ماهي زمان مستمر فينا جميعا لاتنطبق عليه معادلة الماضي والحاضر والمستقبل. أما آب الشهر فلقد توقف فيه الزمن يوم ذاك, فأستحال مكانا تدون فيه الذكريات غير القابلة للنسيان. تبقى هيروشيما في ذاكرة الشاعر عنوانا للدمار. لكن صور تلك الفاجعة لم تكن متاحة مثل اليوم ومن كل الزوايا وعبر كل الهواتف والكاميرات وليس من كاميرا رسمية واحدة توثق الحدث طبقا لماهو مطلوب. حين حصل تفجير برجي نيويورك كنا نشاهد إختراق الطائرات لجدران ناطحات السحاب في مشهد ليس بوسع السينما صناعته. الواقع دائما أكبر من الخيال. حين حصل إنفجار بيروت لم تقع مهمة التصوير على ستلايت الفضائيات. الموتى هم صوروا الواقعة التي وقعت. الهواتف كانت تهتز في أيديهم وهم يصورون توالي الإنفجارات حتى وصلت اليهم. رحل الشاهد وبقي الشهيد. المشهد كان قابلا للتوزيع والتداول في مواقع التواصل الإجتماعي والكوارثي والمصائبي حتى أدمن الجميع النظر الى ماجرى وماسيجري عبر التحليل من زوايا مختلفة. الفوتو كان حاضرا وبقوة لمشهد لا فوتو فيه ولا شوب. أعود لمحمود درويش و"مديح الظل العالي" هذه المرة ودائما بيروت. يقول درويش مؤرخ أقسى اللحظات الهاربة من تاريخنا القابل للتكرار دائما على مستوى الفجيعة . "بيروت ... ظهرا.. يستمر الفجر منذ الفجر.. تنكسر السماء على رغيف الخبز. ينكسر الهواء على روؤس الناس من عبء الدخان.. ولاجديد لدى العروبة. بعد شهر يلتقي كل المللوك بكل أنواع الملوك من العقيد الى الشهيد, ليبحثوا خطر اليهود على وجود الله. أما الآن فالأحوال هادئة تماما مثلما كانت. والموت يأتينا بكل سلاحه الجوي والبري والبحري. مليون إنفجار في المدينة. هيروشيما .. هيروشيما. وحين نصغي الى رعد الحجارة وحدنا نصغي لما في الروح من عبث ومن جدوى. وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقوية. ياهيروشيما العاشق العربي. أمريكا هي الطاعون, والطاعون أمريكا. نعسنا. أيقظتنا الطائرات وصوت امريكا واميركا لأمريكا".