المقالات

أمّي : ( أمّ حاتم ) الجرح النّازف  


محمّد صادق الهاشمي

 

أنا اليوم لا أريد أنْ أتحدّث عن نفسي ، وعن سجني ومعاناتي ، بل أريد أنْ أقف لحظةً لأسجّل فيها موقفاً واحداً من مواقف التاريخ ، إنّها «أمّي» وهي تستلم جثّة أخي الأكبر( السيّد حاتم الهاشميّ) ، أعدمه الجلّادون ببغداد ، وأخبروها في مدينة ميسان بأنْ تأتي لاستلام جثته الطّاهرة ، نعم هكذا بكلّ بساطة في عهد صدام ، إنّه إبنها الأكبر ، كبيرها الذي بنته بيتاً لعزّها ، وخيمةً تأوي إليها في عاديات دهرها ، تستلمه وقد مزّقت رصاصات الغدر جسده .

تعالي «هاشمية ساري»: وقّعي. قالت : لا أعرف توقيعاً ، تعالي : ابصمي . يمّه عليمن ابصم؟  على التعليمات التالية : ممنوع البكاء ، وممنوع أنْ تقيموا مجلس فاتحة ، وممنوع أنْ تخبروا أحداً ، وممنوع، ممنوع أنْ تدفنوه نهاراً ، ممنوع : .... الخ . آه ... وآه ... وآهات ...

أمٌّ تستلم جسد ابنها عارٍ إلّا من رصاصات مزّقته ، فتبكيه بقلبٍ دام، ودموعٍ تنهمر صامتة .

وهي تفكرّ في ولدها الآخر ( قاسم ) الذي لا زال عندهم ، هل سيواجه هذا المصير ، وهل سيأتي يومٌ يرسلون إليها لاستلامه ، كما أرسلوا عليها هذه المرّة.

وهل أنّ ولدها الثالث ( مزهر ) سيواجه مثل هذا المصير ، ولئنّ كانت قد عرفتْ عنّي شيئا ، ورأتني في السّجن ، لكنّها لم  تدرِ عن ولدها (مزهر) شيئا إلى أنْ وافتها المنية ، تفكّر مذهولة أيّ رصاصٍ ، أو موت تحت سياط الجلّادين ستختاره الأقدار له.

لقد كان كلّ واحدٍ منّا نحن أولادها الخمسة نزيفاً جارياً في أعماقها ، وصراخا صامتاً في فمها ، ودمعة رقراقةً تحفر الأخاديد وهي تجري صامدة ساكتة في أعماق أجفانها ، نعم ممنوع في قاموس حزب البعث أن تبكي الأمّ وتصرّح بآلامها، لقد عاشت وهي ميّتة ، وماتت آمالها قبل موتها .

 لا توجد لغة تستوعب جرحها وحزنها ، فتعجز ريشتي المتواضعة عن أن ترسم تلاوين وجهها يوم أتت يد الأقدار لتحمل شهيدها وعميدها (السيّد حاتم) جثّة هامدة ، مع ورقة صفراء مكتوب عليها وعلى آمالها وسعادتها ، وما كانت تحلم به ، و«بكاروك» طالما هزّته تحلم بهذا المولود أن يكون رجلاً ، كتب على الورقة : «أعدم شنقا حتّى الموت».

 لا تبكي يا أمّ حاتم ،  ولا تقيمي مأتماً ، ممنوع حتّى أن تقولي : قُتل واستلّي رصاص الموت من أحشائك دون بكاء ، واحزني دون حزن ، وابكي دون دموع ، وودّعيه دون وداع ، وامسحي كلّ تاريخ آمالك بالحبل الذي لُفّ على رقبته ، وقولي : إنه ليس روحي ولا فلذة كبدي ، ولا هو أحشائي ، ولا قلبي ، ولا دمي ، ولا لحمي ، ولا ولدي ، تنكّري له ، وتنكّري ليديك اللّتين ربّت وربتت على صدره ، واملأيهما فرحا وسروراً كاذبا وقولي شكرا لصدام حسين .

كم سمعتها بعد سنوات من دفنه ، حينما كانت تأتيني للسّجن وهي تبكي حاتما معاتبة:

نسيت وسادتك يالولد يمناي... وجنت لو خفت افزع ليك يمناي

إنّ ذكرياتي تنتمي إلى أمّ زغردت على شواطئ ميسان - ناحية السّلام  ، وعاشت في قريةٍ وولدت للوطن أشبالاً ، وقدّمتهم على مذابح الحرية رجالاً ، وأعطته دماءاً زاكيات، لكنّ  هذا الوطن سقاها ألماً وجراحات ، وبقىت بنزفها تسجّل له المبادئ التي أوفت هي لها ، وخانها الآخرون . لقد ماتت أمّي ، وخشية أنْ تموت ذكرياتها معها ، فقررت أنْ أسجّل هنا شيئا من الوفاء وتاريخاً لها لايكتبه  التاريخ عادة .

واستميح أخوة النّضال الذين استلموا زمام أمور البلد عذرا لكم ، أنّي سأعرّي جسد تاريخ البعثيين الذي أردتم له أنْ ينسى ، وأن نتصالح مع جلّادينا ، نحن لا نصالح على دمائنا، وسأوقف الآخرين الذين أتخموا اليوم وفي زمن جوع الملايين من حولهم ، وشبعوا في زمن جوع الغرباء من حولهم ، وعلوا قمم المال والثّراء في وقت كان الموت والحرمان والدّم تنزف به آلاف الأمهات كلهنّ مثل أمّي .

8 / شهر رمضان المبارك 1441

ـــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك