المقالات

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ السَّادِسةُ  (١٠)


 

                       نــــــــــــزار حيدر

   أَتفهُ النَّاسَ همُ الذين يتجاوزُون جَوهر قضاياهُم وينشغلُونَ بالتَّوافه من الأُمور، كما فعل [المسلمُون] عندما حاصرهُم الرُّوم في القسطنطينيَّة، فبينما كانُوا يتعرَّضونَ للغزو كانَ علماءهُم وقادتهُم يبحثونَ في جنسِ الملائكةِ، أَهيَ ذكرٌ أَم أُنثى! أَو كما كان يحاولُ أَصحاب أَميرَ المُؤمنينَ (ع) فعلهُ في كلِّ مرَّةٍ يستعدَّ لخَوضِ حربٍ مفروضةٍ عليهِ، إِذ كانَ واضحاً عند الإِمام أَنَّهم يسعَون لحرفِ أَنظار جيشهِ وإِلهائهِ وإِشغالهِ عن جَوهر الهدف الذي استعدَّ لتحقيقهِ، من خلالِ إِثارةِ أَسئلةٍ واستفساراتٍ ليس في محلِّها لإِثارةِ الشِّقاق والخلاف في صفوفِ جيش الإِمام (ع) في لحظةٍ هو أَشدَّ ما يَكُونُ فيها بحاجةٍ إِلى الإِتِّحاد والإِنسجام ونبذ الخلافِ والفُرقةِ، حتى خطبَ فيهِم قائلاً {وَإِنِّي وَاللهِ لاََظُنُّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ}.

   كانُوا مشغولُون بالتَّوافهِ وبالقيلِ والقالِ والجِدالِ في أَبسطِ الأَشياء، ولذلكَ أَضاعُوا الإِستراتيجيَّة وأَضاعُوا الهدف. 

   ولقد كانَ (ع) يبذلُ قُصارى جُهدهِ لثنيهِم عن الخُوضِ في الأُمور الجانبيَّة لتوحيدِ همِّهم وتوجيههِ نحوَ الهدف الحقيقي، فمثلاً؛ عندما سأَلهُ أَحدهُم لحظة الإِستعداد للحربِ؛ كيفَ دفعكُم قومكُم عن هذا المقامِ وأَنتُم أَحقُّ بهِ؟ فقال (ع) {يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَد، وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ، وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ؛ أمَّا الاسْتِبْدادُ عَلَيْنَا بِهذَا الْمَقامِ وَنَحْنُ الاَْعْلَوْنَ نَسَباً، وَالاشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً، فَإنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفوسُ آخَرِينَ، وَالْحَكَمُ اللهُ، وَالْمَعْوَدُ إلَيْهِ الْقِيَامَةُ.

وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ  

وَلكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ

وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إبْكَائِهِ، وَلاَ غَرْوَ وَاللهِ، فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ، وَيُكْثِرُ الاَوَدَ، حَاوَلَ الْقَوْمُ

إِطْفَاءَ نَورِ اللهِ مِنْ مِصْباحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً، فَإنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ، وَإنْ تَكُنِ الاُخْرَى، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)].

   أُنظرُوا كيفَ استَوعبهُ الإِمام (ع) وردَّ على تساؤُلهِ بإِختصارٍ شديدٍ، كافي ووافي، ثمَّ قادهُ إْلى أَصلِ القضيَّة التي حشَّدَ لأَجلِها الإِمام (ع) النَّاس.

   إِنَّهُ مرض إِنعدام أَو تضييعِ الإِستراتيجيَّات والإِنشغالِ بالأُمور الثَّانويَّة، وهو المرض الذي لا يُساعدُنا أَن نكونَ في زمانِنا، كما يُساهمُ في تضييعِ جَوهر قضايانا في الزَّمان والمكان المُحدَّدَين.

   خُذ مثلاً على ذلك، الحالة التي نعيشها كلَّ عامٍ مع إِستعداد العالَم للإِحتفاء بعاشوراء وكربلاء وبمنطلقاتِها وأَهدافِها وشخوصِها وتضحياتِها ونتائجها، وكأَنَّنا نتعمَّد تضييع جَوهر هَذِهِ القضيَّة العظيمة التي لم ولن يشهد لها التَّاريخ مثيلاً لها أَبداً.

   أَنا لا أَعجَبُ من الجهلةِ والأُميِّين إِذا أَثاروا قضايا ثانويَّة جدّاً بالنِّسبةِ لأَصلِ الحدث، فهؤلاء قد يثيرونَها جهلاً أَو مدفوعِين أَو للتَّسلية لأَنَّهم بالأَساس لا يمتلكُونَ غَيرها فـ {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وهُم لا يحملُون قضيَّةً ولا يفكرِّون بهدفٍ لتحقيقهِ ولا برسالةٍ لتبليغِها، فكلُّ ما يقصدونهُ هو أَنَّهم يتَّخذون من عاشوراء موسِماً لتوكيدِ أَمراضٍ نفسيَّةٍ كحُبِّ الظُّهور مثلاً أَو لاستعراضِ العضلات أَو لتحقيقِ مبدأ [خالِف تُعرف] أَو لإِثارةِ الشُّكوك مِن دونِ هدفٍ حقيقيٍّ، أَو ما إِلى ذَلِكَ.

   إِنَّما أَعجبُ وعتبي على مَن يحمل رسالة عاشوراء ويسعى لتبليغِها إِلى العالَم، كيف يقبل لنفسهِ أَن ينجرَّ لمثلِ هَذِهِ السِّجالات التي لم ولن تنتهي أَبداً.

   إِنَّ صاحب الرِّسالة يفعل مَعَ قضاياهُ الإِستراتيجيَّة كما فعلَ نبيَّ الله يوسُف (ع) عندما سأَلهُ صاحبَي السِّجن عن حُلُمَينِ رأَياهُما.

   لم يُجِبهُم مُباشرةً، لينتهي المَوضوع فيضيِّع على نفسهِ فُرصة تبليغ الرِّسالة.

   لقد كسبَ ثقتهُم أَوَّلاً ثم بلَّغهُم رسالتهُ [التَّوحيد] وبعدَ ذلكَ فسَّر لهُم أَحلامهُم.

   {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}. 

   هذا هو تصرُّف صاحب الرِّسالة، لا ينجرُّ إِلى الحديثِ جرّاً كيفَ يشاء الآخرُون وإِنَّما هو الذي يحدِّد وِجهة الكلام فتبليغُ الرِّسالةِ أَوَّلاً، فهو الإِستراتيجيَّة، لا يُضيِّعُ فُرصةً إِلَّا وظَّفها لتحقيقِ التَّبليغ، بل أَنَّهُ يخلُق الفُرص.

   والآن؛ هل نَحْنُ نبلِّغ رسالة الحُسين (ع) في عاشوراء؟! أَم ننجرَّ للقيلِ والقال كما يُريد التَّافهون والجاهلُون والمُغرضُون؟!.

   هل نَحْنُ الذين نحدِّد ونرسم مسارات ووِجهة الكلام لنبلِّغ الرِّسالة أَوَّلاً؟ أَم أَنَّنا ننساق وراءَ كلَّ كلامٍ تافهٍ وصِراعٍ جانبيٍّ يريدُون إِشغالنا بهِ عن التَّبليغ؟. 

   للأَسف الشَّديد فلقد أَضعنا الْيَوْم القضيَّة الحُسينيَّة وتمسَّكنا بالشَّعائر الحسينيَّة، بالنِّقاشات والإِثارات التي تدورُ حولها دُونَ القضيَّة وجوهرها.

   قد يَقُولُ قائلٌ؛ إِنَّها جزءٌ لا يتجزَّء من القضيَّة، وأَقولُ نعم، لكنَّها بالتَّأكيد لا تُرادُ لذاتِها وإِنَّما تُرادُ لشيءٍ آخر أَلا وهوَ جَوهر القضيَّة، بالضَّبط كشعائِر [علامات] الحج فحدودُ المشاعِر والواجبات التي يُمارسها الحاج كالإِضحيةِ والحَلق والوقُوف والطَّواف والسَّعي والإِحرام وغيرِها كلُّها شعائِر واجبة لكنَّها لا تُرادُ لذاتِها وإِنَّما لغيرِها، ولقد أَشار القرآن الكريم إِلى هَذِهِ الحقيقة الجوهريَّة بقولهِ {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.

   فمهما كانت الشَّعائر واجبة لكنَّها تبقى وسيلة لتحقيقِ هدفٍ أَسمى هو جَوهر الرِّسالة، فما بالُكَ إِذا كانت الشَّعائر مُستحبَّة في أَحسن الفُروض؟!.   

   ٨ أَيلول ٢٠١٩

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك