كنت قد تحدثت في كتابنا ((ظهور الإمام المهدي وعلاماته.. بحث في منهج التعامل وآلية التعرف)) عن كيفية التعامل مع الروايات المتعلقة بعلامات ظهور الإمام (روحي فداه) ومنها الروايات المتعلقة باليماني، فهذه الروايات لم تطلق لمجرد الرواية، ولا بهدف سرد القصص لاستشراف المستقبل، وإنما تتمتع هذه الروايات بهدفية خاصة خطط لها صاحب الرواية، وهذه الهدفية ترتبط بمنهاج أكبر من خصوصيات الرواية، وعليه فإن التعامل الحذر معها هو السبيل الوحيد لإدراك كنهها وطبيعة ما ترمي إليه، فهي تحتل موضعاً محدداً ضمن خارطة زمانية أو مكانية أو الأمرين معاً، وأي استخفاف في التعامل معها يؤدي إلى بعثرة معطياتها ويمنع من الاستفادة التي أرادها صاحب نص الرواية، وهي تمثل معلماً من معالم منهج محدد تم التخطيط له بعناية بالغة، مما يجعل الإسفاف في التعامل مع هذه الروايات سببا في عدم فهم هذا المنهج، وقد يؤدي التمادي إلى الخروج عنه.
وحينما تغدو القضية حساسة كحساسية قضية اليماني في معركة الهدى والضلال لا بد للباحث أن يتوخى الحذر الكامل في التعامل مع هذه الروايات، فهناك أكثر من إغراء يسمح للدجالين وأصحاب الأهواء أن يستغلوه في هذه القضية، وأحسب أن الكثير من المحققين كان بإمكانهم ملاحظة أن هذه الإغراءات تدخلت في صياغة بعض الأخبار والروايات الموضوعة بطريقة وأخرى، فضلاً عن طبيعة التفسير لهذه الأخبار والروايات، وبعيداً عن هذا وذاك فإن أمورا أساسية يجب مراعاتها بشكل كامل فيما يتعلق باليماني، ومنها:
الأمر الأول: يتعلق بكونه ((أهدى الرايات)) وهذه الصفة تعطي المجال لأصحاب الأهواء أن يطوّعوها بأي طريقة كي يضفوا هذه الصفة وهذا الامتياز لمن يرون أنه يحقق لهم هذه الأهواء، ومن ثم ليفتحوا بوابات الخطر بكل الاتجاهات سواء كانت تتعلق بالوجاهة الاجتماعية الزائفة التي تصنع لمن يخدع البعض بأن فلاناً له هذه الشأنية، أو استغلالها في المآرب السياسية التي تمكّن من ينصّب نفسه في مثل هذا الموضع لغرض جمع الحاشية والأنصار وتوظيف ذلك في السعي لتلك المآرب، أو استعمالها لغرض الاختراق العقائدي، فمن يملك هذا المقام يتمكن من الضرب بأكثر من اتجاه لتحقيق هذا الاختراق، تارة من خلال ما يفترض له من وجاهة تمكنه من خداع الأنفس الغر والعقول التافهة، وأخرى من خلال خلط المقدس في نفوس الناس، مع السيئ في سلوكيات أمثال هؤلاء الدجالون، مما يسقط المقدس ويهينه، أو ما شاكل.
وبطبيعة الحال فقد استغلت هذه الصفة لكي يمتدح الزيديون أنفسهم ويشيروا لأنفسهم بأن اليماني الذي وصف بأنه أهدى الرايات سيخرج من بيئتهم، وبالتالي فإن هذا الأمر ينسحب عليهم بشكل طبيعي فهذه الراية ستخرج من بين أظهرهم وهم سيكونون القاعدة التي ستعتمد عليها، مما يعطي لمذهبهم الحق في مقابل بقية المذاهب.
الأمر الثاني: تتعلق بكون اسمه يمكن أن يستغل على نطاق واسع في معركة المناطق والشعوب التي تحتل قسطاً مهماً في عالم الروايات المنحولة وتأويل غيرها، فلطالما عبث السلاطين ووعاظهم وأصحاب العمائم الزائفة والمصالح المريبة، فوضعوا الروايات وجعلوا وعاظهم يفسرون لهم وفق مشتهياتهم، ففي أيام سلطة بني أمية بلغت الروايات التي تمدح الشام وأهلها حداً يخال فيه المرء أنها هي من نزل فيها الوحي!!، وحينما اشتدت المعركة بين أهل الرأي من الأحناف والمعتزلة في بغداد والبصرة، وبين أهل الحديث والحشوية في مكة والمدينة بالغ كل طرف في مدح هذه المناطق بما لا شائبة في غلوهما وافترائهما على الحديث وصاحب نصه، ولهذا فكون لقب اليماني يوحي أنه من اليمن أو انه من الشعب الفلاني، فإنه يدخل سلفا في معارك اليمنيين مع أقرانهم من الشعوب والقبائل الأخرى كالشاميين والعراقيين والمصريين والفرس وغيرهم، ومن الواضح إن هذه المعارك كلفت الحديث وتفسيراته أعباء باهضة من التزوير والتصحيف والتحريف والتطويع لكي يكون الشعب الفلاني حاضرا في قضية معينة، فما بالك في قضية كقضية الإمام المهدي (عليه السلام)؟ فكل شعب يريد أن يثبت لنفسه موضعاً في هذه القضية التي يتسالم على أهميتها أهل الشيعة والسنة رغم اختلافهم في التفاصيل، واليمنيون لهم حظ ليس بقليل في عملية وضع الحديث والتمحّل في تفسيره كما يعرف ذلك أهل الاختصاص. فلا تغفل.
الأمر الثالث: يتعلق بالظرف الزماني لقضية اليماني، فهذا العبد الصالح وقّت له بشكل محدد، وهذا التوقيت مرتبط مباشرة بعملية التمهيد المباشر للظهور الشريف، وبالتالي فإن أي خلل في التعامل مع الأحاديث المتعلقة به، يمكن أن يخلق مشاكل جمّة على أكثر من صعيد، فهو قريب من الناحية الزمانية ـ كما سنرى ـ من الإمام (عليه السلام) ومن الخراساني والسفياني والحسني، كما إنه قريب أيضاً من جملة من الحوادث الحاسمة المعلنة عن ظهور الإمام كقتل النفس الزكية والصيحة في ليلة القدر، وبالتالي فإن أي إخفاق في هذا الصدد سيعود بضرر بالغ على منظومة روائية جمعت منهج أهل البيت ع في شأن الظهور، فما نتحدث عنه إنما هو حديث عن العلائم الحتمية، وهذه العلامات قريبة جداً من الظهور، وقد أشير إليها لكي تدلّ مباشرة للإمام (روحي فداه) ولكي يحتجّ بها أيضاً على ظهوره (صلوات الله عليه) في زمن ستكثّر فيها الكذّابة من أدعياء المهدوية، مما يجعل التساهل في التعامل مع قضيته ينطوي على مخاطر فائقة جداً.
https://telegram.me/buratha