المقالات

الموت في الاغتراب

1463 15:20:00 2008-01-16

( بقلم : مهند السماوي )

في الاغتراب تنشأ تقاليد وعادات،تختلف عن البلاد الاصلية،والاختلاف يكون في نشوء تقاليد وعادات جديدة ناشئة من حالة الامتزاج بين تقاليد البلد الاصلي،أو البلد الام،مع تقاليد وعادات،بلد المهجر الجديد،وبلاد المهجر بدورها تختلف،ففي حالة البلدان الاوربية،التي لها تقاليد قديمة ناشئة من تراث طويل لشعوبها المستوطنة للقارة الاوربية،تختلف في حالة العالم الجديد(امريكا الشمالية والجنوبية،وقارة استراليا)التي هي شعوب مزيج من السكان الاصليين(وهم غالبا أقلية)مع المهاجرين من شتى بلاد العالم،الذين يأتون بعاداتهم وتقاليدهم الاصلية الى تلك البلاد،وبالتالي ينشأ جيل مختلط،له عادات وتقاليد تختلف عن الجيل الاصلي،وعن بلاد أخرى،وحالة المهاجرين من بلاد الشرق الاوسط،ومنهم العراقيين لاتختلف عن البقية،تبدأ باللغة وتراكيبها الجديدة،مرورا بالعادات والتقاليد الجديدة،وأنتهاءا بالتسامح مع الاخرين والالتزام بقانون البلد الجديد.

في المهجر تنشأ حالة من الذوبان في الهوية الوطنية القديمة،بمعنى أنه نظرا لقلة عدد المهاجرين،وتنوعهم الديني والاثني والمناطقي،تنشأ حالة من الصداقة والتعارف والعلاقات الاجتماعية والانسانية المتينة،فيما بينهم،نظرا لصعوبة بناء علاقات جديدة مع الجاليات الاخرى خاصة في بداية الهجرة،في سرعة بناء نفس العلاقات مع أبناء الوطن الواحد،أو بلاد عربية وأسلامية،في الدرجة الثانية،نظرا لحاجز اللغة،والتقاليد والعادات والدين وغيرها.وهذا يختلف عن حالة ذوبان أخرى في بلاد المهجر وخاصة دول العالم الجديد،والتي تبدأ بالجيل الثاني،في أخذ ملامحها الرئيسية.

تنشأ بطبيعة الحال،مشاكل وخلافات مختلفة،تطول وتقصر حسب نوعية الخلافات والقائمين عليها،وقد تنشأ كتل متنافرة،يصعب الجمع فيما بينها،ويعجز العقلاء وكبار الشخصيات في الجاليات عن حلها.ألا أننا نجد شيء واحد يجمع فيما بينهم،وبصدق وبدون أي ممانعة من قبل الغالبية،وأقصد به الموت،والذي يسمى هادم اللذات ومفرق الجماعات،ألا أنه في حالة الاغتراب،يصبح جامع الجماعات،على الاقل بالنسبة للاحياء،يتساوى الجميع في حالة واحدة من الذهول في فقدان أحدهم،تفوق الحالة في بلداننا الاصلية،قد يكون ذلك ناشئ من حالة الشعور الداخلي بالغربة من المحيط الخارجي،والحاجة الدائمة لكل من يزيل هذا الشعور المدمر للانسان،أو لقلة العدد،وليس هنالك أفضل من أصدقاء ومعارف الوطن الاصلي،وبالتالي يكون فقدان احدهم،سواء بالموت أو برجوع البعض للوطن،أو الى بلد آخر،كمن فقد أحد أبناء أسرته الصغيرة،تزداد تلك الحالة مع كبار السن،وخاصة ممن قضوا،فترة طويلة في الوطن الاصلي،وأجبرتهم الظروف الصعبة،الى الهجرة واللجوء،ثم يأتي بعدهم الشباب من افراد الجيل الاول من المهاجرين،وطبعا هنالك شذوذ لتلك الحالة وهذا شئ طبيعي لكل الظواهر الناشئة سواء في الطبيعة،أو المسيرة الانسانية الطويلة.

عند رحيل اي فرد في بلاد الاغتراب،تنشأ حالة من الشعور بالحزن لدى جمع كبير من الناس قد يكونوا بعيدين كل البعد سواء نفسيا أو مكانيا أو زمانيا،تفوق بكثير مما هو موجود لدى بلادنا الاصلية،وقد يشعر بذلك الكثيرين،ذلك أن الشعور بالغربة،والخوف من المحيط الخارجي أو الاختلاط،يجعل الشعور بالحاجة الى من يزيل حالة الاغتراب الداخلي،قويا لدرجة تصبح متلازمة دائمة لحالة العلاقات الانسانية الطبيعية،وهذا الشعور غير موجود في أوطاننا الاصلية،وأذا وجد فأنه ليس بمثل تلك الدرجة من الغربة الداخلية والشعور بالخوف من المحيط المختلف عنا كل الاختلاف في كل الاصعدة.

عندما نحظر مجلس عزاء وتابين لاحد الاشخاص،في بلاد الاغتراب،فأننا نشاهد أشخاص مجتمعون من شتى المشارب والاهواء،لايجمع بينهم سوى حالة العاطفة الانسانية السامية،والشعور الادبي النبيل،والدافع الديني السامي الخالي من حالات التعصب المقيت،والرؤية الضيقة للدين.يجتمع البشر من أقصى اليمين الى أقصى اليسار،مرورا بالوسط...من أقصى التطرف الديني،الى اقصى حالات التحرر منه!كبار السن وصغاره... رجاله ونسائه..مزيج بشري قلما يجتمعون في مناسبة،مع شعور أنساني طاغي ونبيل لفقدان أحد الاحبة.

يزداد الالم والحسرة والحزن العميق،اذا كان الفقدان،ناشئ من حادث أليم كان من المفترض تجنبه،بقليل من الحرص على السلامة الجسدية والنفسية،أو كونه من الشبان المأسوف على شبابهم،أو المفقود،طيبا حلو المعشر،رقيق القلب،وسليم النية،أو صاحب عائلة ،يكونوا بأمس الحاجة اليه،ونحن نعرف مدى تأثير فقدان الابوين أو أحدهما على نفسية وشعور الطفل،وخاصة في المستقبل.

مع توفر كافة الخدمات الطبية،والحالة الاقتصادية الجيدة،مقارنة بدول العالم العربي،فأن غالبية الوفيات هنا في الغرب،وهذا مايزيد في النفس حسرة وألم،هو لشباب دون سن 45 يتوفون في الغالب من جراء الحوادث العرضية المختلفة،والتي بالامكان تجنبها،اذا جرى تطبيق أجراءات السلامة،أو تجنب الخلافات الدموية مع الاخر،ولذلك يحل شعور طاغي لدى المغترب،بالحزن الشديد،حزن يختزن في داخله جميع العلاقات الانسانية ومنها الصداقة،بأبهى صورها،وأكثرها جمالا ورقة،يفوق ما موجود في بلادنا الاصلية،التي تكثر فيها حالات الوفيات،طبيعية أو غير طبيعية،والنسبة العالية للوفيات،نتيجة لتدهور الاحوال الامنية والاقتصادية،بالاضافة الى الشعور الداخلي غير الظاهر،بالاستخفاف بالروح البشرية،أو التقليل من قيمتها أو شأنها،وهذا يجعل من السهولة نسيان الراحل عن الحياة،ألا لدى قلة من الخواص.

نظرا لهجرة المغتربين،وأبتعادهم عن بلادهم الاصلية،لاسباب مختلفة وخاصة السياسية منها،جمعت من يرحل منهم،عن هذه الدنيا،مقابر خاصة أو بالصدفة اصبحت خاصة تحتوي رفات المغتربين،ومنها مقابر السيدة زينب(ع) في سوريا أو مقابر قم المقدسة في ايران،والبقية في مقابر الدول الغربية المتناثرة فيها.أما الان بعد سقوط نظام بعث العراق عام2003م فأن التحول للدفن في النجف الاشرف أو العراق عموما،واصبح هدف الغالبية،ولذلك عند زيارة المقبرتين،القديمة والجديدة،بجانب الضريح المقدس للسيدة زينب(ع) في دمشق تجد قبور المغتربين من كل بلاد الدنيا،مجتمعة،وتشترك في صفة الاغتراب عن الاوطان،ولشتى الاسباب،ومنهم نسبة كبيرة من رواد الفكر والدين والادب،يشعر الزائر لهم بجاذبية خاصة،ومشاعر أنسانية سامية،قد ينتج بعضها،من حالات النفي والغربة والمعاناة،وهو شعور جامع لدى المغتربين،حتى لو كان المدفون غريبا.حتى في مقابر الغرب،توجد أقسام خاصة لاصحاب الديانات المختلفة ومنها المسلمون،والشعور الداخلي ذاته ينشأ من الزيارة لرفاتهم.

حالة التوحد ونسيان الخلافات عند رحيل شخص ما والوقوف بصمت ورهبة امام قوة الحدث تتكرر بأستمرار،ولذلك يتمنى المخلصون أستمرارها أو على الاقل أستغلالها،لازالة ما تراكم من جراء الخلافات الطبيعية الناشئة بين البشر،أمنية يجب أستغلالها بعقل ومنطق،كوسيلة للتخفيف من معاناة الغربة.كثير من المغتربين،رحلوا من هذه الدنيا،وكانت أهم أمنياتهم زوال الانظمة الديكتاتورية في بلادهم،والعودة للعيش مرة أخرى في ربوعه،أو الدفن في ترابه!

ومنها العراق،فقد رحل عن الحياة جمهرة من فطاحل العلم والادب،عاشوا معاناة الغربة وكتبوا عنها كثيرا،في أدبياتهم المنشورة أو غير المنشورة،التي تصدر بعد رحيلهم بين الحين والاخر،ولكن كان أبداعهم في القمة من جراء تلك المعاناة،وتحضرني بعض الاسماء التي رحلت قبل سقوط النظام بفترة وجيزة،وكانت أمنيتها رؤية زواله،ومنها الاديب الرقيق عبد الغني الخليلي،والاديب محمد كاظم الطريحي،والشعراء الفطاحل،الجواهري والبياتي والحيدري وجمال الدين وغيرهم لا يتسع المجال لذكرهم لكثرة عددهم!وضخامة عملهم.ذكراهم ماثلة أمامنا،لاتضعف ولا تزول،بل باقية تتجدد كنبع الحياة الخالد الصافي.

مغترب ينعى مغترب: اكتب هذا عند رحيل أحدنا من هذه الدنيا حيث تتوافد المشاعر الجياشة الصادقة والنبيلة لدى الجميع،حيث أنشغلت بعض وسائل الاعلام في أستراليا منذ أيام لغرابة الحدث وندرته،عند رحيل احد العراقيين المغتربين(عبد الجليل الشيخ على) بطريقة مأساوية،وهو غرقه في النهر أمام اعين أبنه البكر الصغير،وأثنين من الزوار،وبقي جثمانه مجهولا في النهر،لثلاثة أيام من البحث المستمر،وتكبر المأساة أذا علمنا ان لديه ثلاثة أطفال،والرابع جنين!وأنه من خيرة الشباب في مدينته،خلقا وأخلاقا،رحيله رحمه الله تعالى في يوم 612008 أفجع الجميع،ووحدهم أيضا!.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
نصير الكيتب
2008-01-17
السلام على الحسين الشهيد...شكرا اخي مهند لاسلوبك الرائع....وندعوه تعالى ان يمن على اهل الفقيد الراحل بالصبر والسلوان وان يرحمه تعالى برحمته ...ساعدنا الله تعالى على غربتنا جميعا
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك