( بقلم : طالب الوحيلي )
مع التقدم الحاصل في العملية السياسية عبر سلسلة من الانشطة والاحداث بما فيها من ميلودراما عنيفة ،وارهاصات قد تتجاوز بحدتها وتعقيداتها كل النماذج السياسية التي شهدها العالم ،فضلا عن التطورات الايجابية التي ينبغي للمراقب المنصف ان يشير اليها بكل فخر واعتزاز كونها تعد نقلات نوعية في تاريخ حركات التحرر الوطني ،بالرغم من الغطاء الاعلامي الماكر والمنافق الذي تعمد نقل الحقائق بصور مشوهة لغرض خلق حالات الاحباط وتطويرها في ذهنية المواطن العربي او العراقي الذي بقي يترقب تطورات الاحداث من منفاه ،فالفرص التي اتيحت للشعب العراقي في الحياة الحرة الكريمة البعيدة عن الانماط الديكتاتورية والعنصرية كانت كبيرة جدا ،بيد ان القوى المضادة لايمكن ان تلقي باسلحتها بهدوء او بيسر ما دامت تجد لها اكثر من ثغرة للولوج الى قلب ميدان الصراع ،وهي من الخسارة التي لحقت بها جراء سقوط نمطها السياسي بمكان ان تسعى بكل قدراتها وخبراتها الادارية والتكتيكية من اجل قلب المعادلة الجديدة ،لذا فان تلك القوى اتخذت لها اكثر من مظهر لكي تنفث سمومها في الجسد العراقي المعتل من ادران الماضي ،فيما اصبحت لها اليد الطولى في النيل من النظام العام عبر ارتكابها الجرائم البشعة واشاعتها للارهاب بكل انواعه ،ناهيك عن كونها اخطبوط بشع امتدت اذرعه في كافة ارجاء السلطات الثلاث ،فهي من أهم أسباب شيوع الفساد الاداري الموروث من العهد السابق والذي استفحل اليوم بسبب وجود الخلل الرقابي والعقابي ،وقد استطاعت ايصال عدواها الى الكثير ممن عهدت اليهم مسؤوليات ادارية مهما كانت بسيطة صعودا الى المراكز العليا ،وكأن ذلك مصداق للحديث الشريف (اياكم وخضراء الدمن قالوا يارسول الله وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في منبت السوء )كون البعض قد استمرأ الأساليب التي تطبع عليها من تخرج من مدرسة النظام الصدامي ،ولان المال السائب يغري ضعاف النفوس ،فقد سادت بعض الظواهر المؤلمة في ادارة المجتمع وليس الدولة وحدها ..
لقد كان هاجس السيد محمد باقر الحكيم (قدس) كبيرا بازاء هذه الظاهرة التي شخصها قبل استشهاده بعدة اسابيع وقد كانت محل حديثة وقلقه في اكثر من مناسبة ،حتى انه خصص لها زاوية في احدى خطب صلاة الجمعة في النجف الاشرف ،حين تناول موضوع الظلم واثاره الاجتماعية فقال (نجد أن للظلم أبعاد مختلفة في حياة الإنسان وعلاقاته..من ذلك، ظلم العباد عندما يظلم الإنسان أخاه أو أخته أو أهله أو ولده أو أهل محلته، كذلك ظلم المجتمع عندما يظلم الجماعة بصورة عامة، ويمكن أن نجد مصاديق لهذا الظلم في حياتنا الفعلية وفي تاريخنا الإسلامي وفي التاريخ البشري بصورة عامة، أشير لها وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق إخواننا جميعاً في الاجتناب عنها لما لها من تأثير في الأوضاع العامة لمجتمعنا وجماعتنا. من هذه المصاديق الإخلال بالنظام العام. إن المحافظة عليه واجب من الواجبات الشرعية والعقلية، والإخلال به يمثل نوعاً من أنواع الظلم وذنباً من الذنوب وإثما من الآثام، كما إذا قام الإنسان بسد معابر الطريق أو أشاع الفوضى في حياة الناس وفي علاقاتهم، كذلك في ظلم الجماعة في الإخلال بالأمن العام الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بمحاربة الله ورسوله {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا}هؤلاء مصداقهم كما يذكر الفقهاء أنهم الذين يخلون بالأمن العام كالذين يسدون الطريق أو يستخدمون القوة والسلاح في إيذاء الناس وإيجاد الاضطراب، كذلك عمليات اللصوصية كعصابات النهب والسلب والسرقة والاختطاف كل هذا يمثل الإخلال بالنظام العام وهو حرب لله ولرسوله، ولذلك كان جزاؤهم كما يعبر عنه القرآن الكريم {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} كذلك الإخلال بالاقتصاد العام للأمة بحيث يوجب ارتباكاً في الأوضاع العامة والحياتية كعمليات التهريب التي تجري للمواد الضرورية مثل الجازولين والنفط وتهريب الحديد الموجود في العراق وعمليات التهريب الواسعة الأخرى التي تجري، كلها من أنواع الظلم والإثم العظيم الذي يستحق الجزاء والمحاربة والمواجهة. وكذلك عمليات الاحتكار عندما تُحتكر المواد العامة التي هي مواد لابد أن توزع للناس بصورة عادلة، لقد جيء بها للعراق واستوردت من أجل الأمة فاحتكارها ورفع أسعارها نوع من أنواع الظلم للجماعة، كذلك الإخلال بالأمن الاجتماعي ـ وهو موضوع لم يتم بحثه في الفقه بصورة واسعة ولا بد من التركيز عليه ـ مثل إشاعة المخدرات ونشرها وبيعها وإشاعة الفحشاء التي يشهدها مجتمعنا وعمليات المتاجرة بالجنس والبغاء من أكبر أنواع الظلم، وإشاعة الانحلال الأخلاقي من خلال نشر الأفلام والمواد الثقافية التي تعبر عن الفساد والانهيار الأخلاقي، كل ذلك يمثل إخلالاً بالأمن العام للجماعة لذلك نحتاج إلى حركة اجتماعية واسعة من قبل أبناء الأمة لمواجهة مثل هذه المظالم الاجتماعية.إنها مظالم تهدد الجماعة فنحتاج إلى إجراءات واضحة من قبل الدولة والنظام في مواجهتها)فبالرغم من الفاصل الزمني والمتغيرات الكبيرة في التجربة العراقية وما توفر لها من مميزات ومستلزمات للنجاح والتحول الى مرحلة التصدير كأنموذج للعالم المتحرر ،الا ان ما اشار اليه السيد شهيد المحراب في خطبته ما زال حيا وقد تجذر كثيرا ليكون النظام العام أهم ضحايا هذه التجربة للأسف ،في الوقت الذي ينبغي ان توضع له كل القدرات من اجل ترصينه لانه المحيط الذي تنمو فيه الحياة الطبيعية ،كما ان تلك الظواهر قد الحقت بها كوارث الرشوة والمحسوبية والجرائم الماسة بالثقة العامة وهي سلسلة جرائم افرد لها باب في قانون العقوبات العراقي ..في خطابه الذي القاه بالملتقى الحادي عشر لمؤسسة شهيد المحراب ،اشر سماحة السيد عبد العزيز الحكيم الى هذه الظاهرة كونها تشكل الوجه القبيح لهذه المرحلة مؤكدا على (محاربة الفساد الاداري والمالي، فان هذا الأمر على قدر كبير من الاهمية، وانه لمن دواعي الالم والاسف ان يُصنف العراق عالمياً من الدول الأكثر فساداً في الجانب الاداري والمالي.صحيح ان الظروف التي يعيشها العراق هي ظروف استثنائية، لكن الصحيح ايضاً ان معالجة الفساد الاداري والمالي يحتاج الى معالجات استثنائية في اطار القانون.
ان الصيحات تتعالى من هنا وهناك عن وجود رشاوى وجبايات في دوائر الدولة وخارجها تؤخذ من المواطنين ظلماً وعدواناً تحت عناوين شتّى وتحت ظل التهديد بتعطيل المصالح والحاق الضرر بالناس من اصحاب المصالح والاعمال، وهذا الامر يلاحق حتى المراجعين البسطاء الى دوائر الدولة لاستحصال حقوقهم الطبيعية كمواطنين لهم حقوقهم الطبيعية في هذا البلد..)
ماهو معروف في العالم المتحضر ان لا مساومة مع من يتعرض الى النظام العام بالسوء ،وان القانون فوق الجميع ويخضع له الصغير والكبير ،فيما تعتبر خدمة المجتمع والمواطن خطا احمرا لا يمكن لاحد تجاوزه باتجاه التعرض لها سلبا او التحرش بها ،وقد أصبحت الفئة الأكثر معاناة من ظاهرة الفساد الاداري هم فقراء الشعب وبسطائه ،لذا شدد سماحة السيد الحكيم (هنا على ضرورة ايلاء الحكومة وكل المخلصين لهذا البلد هذه المسألة اهتماماً كبيراً، ولابد من البحث عن آليات ووسائل عمل تضع حدّاً لهذه الظاهرة الخطيرة التي انتقلت الى العراقيين بسبب سياسات النظام السابق، وغياب المؤسسات الرقابية والراعية للدولة..واشدّد أيضا على المبلّغين وائمة الجماعة والجمعة في العمل على محاربة هذه الظاهرة، كما ادعو هيئة النزاهة والقضاء المستقل إلى العمل بجدية على محاربة الفساد ومعالجة القضايا الخطيرة والكبرى وعدم الانجرار الى القضايا البسيطة والجزئية وفقاً للقانون ومبدأ الحيادية والشفافية بعيداً عن أي تسييس،كما ادعو الجميع الى الالتزام بالضوابط الشرعية والقانونية في معالجة مثل هذه الحالات وعدم القاء التُهم جُزافاً وعدم الخُضوع للشكاوى الكيدية والتُّهم الباطلة والتشهير بالناس قبل ثبوت الجُرم وحصول المخالفة).
نجاح التجربة السياسية العراقية بما تعنيه من انتصار للشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها في العالم ،هذا النجاح هو ما تخشاه الحكومات الاستبدادية ،لذا فان الأمانة التأريخية على كل القوى التي تمثل الشعب وتتمثل بمظلوميته ان تعي معنى هذه التجربة التي ينبغي ان لا تدع فأرا يقوض سدها فيتحول الى سيل العرم.
https://telegram.me/buratha