( بقلم : طالب الوحيلي )
لم يكن طموح الشعب العراقي والقوى التي تمثل قضيته وتصدت بالفعل للعمل من اجل تحريره من طغيان النظام البعثي الدموي ،بحدود الواقع الذي نعيش أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،بل يتعدى ذلك الى اقامة نظام سياسي متطور يستمد قوته من تاريخ العراق الجهادي والنضالي ومن تراكم التجارب التي أحاطت به عبر تناسخ الايديلوجيات والرؤى ،وعبر تنامي المشروع الوطني الذي محص كثيرا على نار الصبر والمثابرة في المنافي والمهاجر وساحات الصراع مع اعتى قوة همجية حكمت وادي الرافدين ،فكان الامل بسقوط الطاغية اكبر من أي حلم اخر بل هو مفتاح الفرج لدى كافة ابناء العراق ،وقد يتفق الجميع على هذا الامر ،لكن عوامل الصراع تثور بحدة طاغية حين يصل الامر الى الواقع واليقين بانتهاء تلك الحقبة من الزمان العراقي الصعب حيث تتساقط الاحلام والصور الوردية للمستقبل المشرق امام عناصر اللعبة السياسية التي لابد ان يقف وراءها اكثر من لاعب ماهر ،فيما تتخذ قطع اللعبة دورا اكبر من ان تكون مجرد قطع صماء ،فهي تكتنز عوامل القوة والضعف في ان واحد ..
الشارع العراقي هو الاخر من ابسط افراده وحتى اعلمهم قد امتلك الكثير من المفردات التي تمكنه من قراءة ما يدور حوله من ارهاصات فيها من الحدة ما تضعه وجها لوجه مع مصيره وبمستوى قد يتعدى مظلومية الماضي ،فتجده اكثر تحسسا للفعل وردوده وتجد الطعنات تصيبه بالصميم قبل ان يحظى بما وعد به من حياة مزدهرة تضاهي ما يعيش به جيرانه ممن يقاربه ثراءا وغنا قياسا لما يتمتع به العراق من ثروات طبيعية وخيرات مازالت بمثابة الكنوز التي لم تتفجر ،وكان اعتقاد الجميع ان مجرد سقوط اصنام الطاغية ومحو صوره سوف يحول المواطن العراقي الى اغنى فرد في العالم ،وعلى فرض ذلك سوف تتحول بغداد الى جنة الارض خلال ثمانية عشر شهرا ،وهي المدة الاعتبارية لانجاز المشاريع العمرانية الكبرى في العالم ،وتتوالى الحكومات وتتحقق بعض التجارب الديمقراطية التي تلمس المواطن وجوده فيها ،لتنفتح عليه ابواب الجحيم ليضع ذلك المشروع الوطني امام اختبار صعب قد يكون الخاسر الاكبر فيه ابناء الاكثرية التي زحفت لصناديق الاقتراع في الملاحم الانتخابية السالفة .بعض القوى السياسية السائرة على خطها او التي تستشعر الهم العراقي اكثر من غيرها ،قد تعاطت مع هذه الإشكالية من مواقع مختلفة ،فمنها ما يمثل العمق الجهادي وهو المتصدر لحركة الجماهير ومحور جذبها ، وهو بذلك المتاثر بمواقفها اكثر من غيره ما دام لا يستطيع فرض أجندته الموضوعية على صعيد الواقع ،ومنها من انكفأ على ما حصل عليه من امتيازات وظيفية وكأنها منتهى أمله ،فيما يغمض عينيه ويصم اذانه لما يصدر من اصداء مستنكرة ومنددة للحالة المعاشية والخدمية وكل ما يمس كرامة العيش والحياة ،وما يسود من تردي اداري بسبب افة الفساد .
المرجعية الدينية العليا وبعض القوى المتصدية ومنها المجلس الأعلى الإسلامي العراقي استشعرت هذه الحالة منذ سقوط الطاغية ،وقد كانت خطابات السيد شهيد المحراب (قدس) قد أشرت لكل ما جرى في العراق برغم المدة القصيرة التي عاشها وسط الشعب ،فيما نجد اليوم السيد عبد العزيز الحكيم يؤكد هذا الطرح ،ليشعر الجميع بان خط شهيد المحراب مازال هو المحور الأساس للتجربة العراقية ،وقد جاءت خطاباته معبأة بذلك الهم الكبير بالرغم من استشرافه لبعض الانجازات التاريخية التي تحققت للشعب العراقي ومنها خلاصه من النظام البعثي الصدامي ،وقد جاء خطابه في الملتقى الحادي عشر للمبلغين والمبلغات في النجف الاشرف كقراءة تصويبية للكثير من التصورات والأنشطة التي جرت على صعيد الواقع .
فإشارته للمحاور التي تضمنتها الثورة الحسينية الخالدة انما هي من منطلق اعتباري ورسالة واضحة للقوى التي عبثت بالمصير العراقي قبل وبعد سقوط الطاغية ،وتلك القوى تتحمل معظم اثام الماضي من خراب وتقتيل وعبث بخيرات البلاد ووحدة الشعب وتجانسه ،لتاكل بنيرانها الهمجية الكثير من الرموز والشخصيات والقيم ،دون ان يكون مقابلها رد فعل بالمستوى الذي قامت به من كوارث ..( واليوم وفي مثل هذا الاجتماع المبارك نتحدث عن محور آخر من منهجه في عاشوراء، وهو منهج الرفض لكل ما هو غير شرعي مع تقدير المصالح وتحديد اسلوب الرفض بما يحفظ تلك المصالح.وهذا الرفض للظلم ولعدم الشرعية، لا نلمسه فقط في يوم عاشوراء أو الأشهر التي سبقته منذ انطلاقة الحركة الحسينية من المدينة المنورة الى مكة ثم الى العراق، بل نلمسه ايضاً بعد شهادة الامام الحسن "عليه السلام" حين أراد معاوية بن ابي سفيان اخذ البيعة ليزيد من اهل المدينة، فقد رفض الحسين اعطاء البيعة لأنه رآها غير شرعية، وان مثل يزيد لا يمكن ان يكون حاكماً على المسلمين، واستمر هذا الرفض حتى موت معاوية، وتغيّر تبعاً لذلك اسلوب التعبير عن هذا الرفض، حتى انتهى بإشهار السيف دفاعاً عن النفس، وإثباتا لعدم شرعية الحكم القائم.... إننا اليوم نواجه العديد من المسائل التي تحتاج منّا جميعاً الى وقفة جادة من اجل الوصول بالعراق الى شاطئ الأمان، بعد كل الانجازات الكبيرة التي تحققت بفضل صمود وتضحيات العراقيين طيلة السنوات الماضية، سواء التي سبقت أو أعقبت سقوط النظام البائد، ومن هذه المسائل وجود عصابات إجرامية ذات جذور صدامية تسعى لفرض سيطرتها على البلاد، وتتخذ القتل والتهديد والإرعاب وسائل لتحقيق أهدافها من الهيمنة والسرقة وفرض الإتاوات على الناس وابتزازهم، وقتل العناصر المخلصة وبالخصوص تلك المنتسبة إلى خط المرجعية الدينية الرشيدة، فتلك العصابات ملأت بالحقد والكراهية لهذا الخط الأصيل باعتباره الخط الذي قاتلهم لأكثر من ثلاثة عقود، منذ زمن الإمام السيد محسن الحكيم وآية الله العظمى السيد الشهيد الصدر وبعدهما الإمام الخوئي "قدس سره".)
حديث السيد الحكيم لا يخرج عن معنى واحد الا وهو الخصم السياسي والعقائدي للشعب العراقي ،وهو البعث الصدامي الذي تمكن بخبرته وحنكته الإجرامية من التلون بأي زيّ يلوح له او يجده مناسبا تحت مسميات معينة أو بغير مسمى للوصول الى مبتغاه الا وهو إفشال التجربة العراقية الجديدة وإجهاض العملية السياسية من خلال غرس حالة القنوط الشعبي من جدوى القوى الوطنية الحاكمة ومن قدرتها على تمثيل الشعب بالصورة التي تحقق له كل رغباته واستحقاقاته ،لكي يجعله في حنين الى ذلك الماضي المر الذي كان يعيشه .لذا دعا سماحته الشعب العراقي الى التعرف على تلك القوى في مختلف مناطق البلاد وفضحهم، وتعريفهم للناس، والوقوف بوجههم، وان لا تجري المساومة في القبول بهم والسكوت عنهم والرضوخ اليهم، ففي ذلك مصادرة لكل التضحيات والجهود المبذولة وفي مقدمتها تضحيات المراجع العظام الشهيدين الصدرين وشهيد المحراب ومئات الآلاف من الشهداء والمضحين..
https://telegram.me/buratha