بقلم أبو مرتضى العسكري
ربما من الضروري ان يتم ـ علينا بالتحديد ـ التفريق بين مقدمات أي حدث وبين مداخله ، مع ان أي منهما يفضي الى الآخر، و للتعريف نقول ان المقدمات هي مجموعة العوامل التاريخية البعيدة والقريبة التي تؤدي الى طريق ما ، وأما المداخل فهي مجموعة الخطوات العملية التي تؤدي الى عنوان محدد على هذا الطريق ، وفي موضوعنا الذي مازلنا فيه منذ أربع سنوات ونيف من الشهور فإننا في صراع او قل صراعات سياسية ، وهي شانها شان الظواهر الطبيعية لها قوانين تحكم حركتها وتضبط مسارها . وليس من شك ان الإرادة الإنسانية تملك من القدرات في شان الصراعات السياسية ما لا تملكه ازاء الظواهر الطبيعية ، فهامش تدخلها بالأخيرة محدود ان لم يكن صفري القيمة ، ولكن ذلك لا يكون عن طريق تجاهل القوانين وضبط مسار حركتها التفاعلية ، وإنما يكون عن طريق حسن استخدامها والاستفادة من حركتها ، وهي حركة خاضعة لنواميس معروفة ، مرتبطة بالكفاءة في إدارة التفاعلات الناجمة عن هذه الحركة ، وبغير ذلك فان النظام يختلط بعدمه ، وتضيع الحدود بين القرار الاستراتيجي وبين التمنيات الحسنة، وهكذا فان النجاح إزاء التحديات المحددة الأطر هو معيار الحكم على أي عمل سياسي ، والقيمة بحد ذاتها هي معيار الحكم على الأفكار ، ونعني بالقيمة ، مقدار الناتج المتحصل ، والحلم بالمدينة الفاضلة كما حلم بها افلآطون او بدولة العدل الإلهي كما نحلم ، يبقى املا ، وحتى وان لم يتحقق في قرن او عشرات القرون، ذلك ان قيمته باقية للإنسانية عبر تاريخها ، لأنها أي القيمة، تنسجم مع الفطرة الإنسانية بالتطلع الى ان يسود الحسن وينحسر القبيح، وقيمة الفكرة ستراتيجيا هي معيار الحكم عليها بغض النظر عن تحقيق الهدف من عدمه، وعمليا فان السياسي يبدأ من الواقع الذي يقف عليه ولنقل في اقل الاحتمالات الذي يراه، ولا شيْ غير ذلك قطعا ، اما المفكرين ، والفكر ذاته فانه يبدأ من المطلق المجرد وليس هناك قبل المجرد من شيْ.وعموما فان التاريخ لا يعطي حكمه على أساس النوايا والرغبات كما يتخيل بعض من هواة السياسة ولكن الحكم يؤسس على محاولة السعي ، مع الإقرار ان العمل السياسي ملك ظروفه وما يصلح في ظرف ما لا يمكن مقايسته على ظرف اخر لعدم توافر التشابهية بالظروف بحال ليس هناك من انطباق عملي او وصفي ، وهو على هذا الأساس ليس ملكا لأحد بدوام بدعوى الأنسانية او ملكية النتاج البشري العام ، فهذا مجال غيمي لا يصلح بالعمل السياسي الذي يتطلب محسوسات ( زمانية ومكانية ) .زمانية باتفاق الزمن مع الصيرورة ومكانية بصلاحه لها.اذا ما المطلوب ؟ وما العمل والفرصة التاريخية التي كنا نبحث عنها ونعمل عليها لأكثر من أربعة عشر قرنا عملا تراكميا بين أيدينا؟ وهل نسمح لهذه الفرصة ان تفلت مثل حفنة من الرمال ، فالذي جاءنا ونعني به سقوط نظام صدام ليس سقوطا لصدام ونظامه فحسب بل هو ( مدخل) نتج عن (مقدمة) والمقدمة كانت بحق أقسى أنواع الصراع الفكري ، والمدخل تناولناه بتضحيات تراكمية بحجم شعب بأكمله ، وهي لم تقدم لنا على طبق من ذهب بل قدمنا لها طبقا من شعب !!
إننا وبلا افتعال فكري أمام مسؤولية البديْ بركائز دولة العدل الإلهي، وكنا وما زلنا إزاء قوى كانت وما زالت سببا في اعاقة مشروعنا الحضاري منذ 1400 سنة، وهذه القوى وجدت نفسها خارج اطار التاريخ الذي صنعته دما وطغيانا، وبالمقابل علينا انطلاقا من نقطة الوعي بعدم الخلط بين العقيدة والأفكار والسياسة، فكل منها له مسار وان كانت لها ملتقيات، وذلك حتى لاتصل يوما ـ لا سامح الله الى القول إن العزيمة لم تكن هي التي تنقصنا، لكن الحظ قد فارقنا وهو ما يقوله البلداء!
إن خصمنا يسعى وفقا لنظرية عمل متكاملة وبأطروحة علنية واتخذت أبعادا إستراتيجية لأنه لم يغادرها أبدا، لإنهاء وجودنا وتحطيم مثاباتنا واجهاض اية محاولة لتنظيم هذا الشعب ووضعه على طريق نيل الحقوق والإستحقاق، لإنه يعلم إن تنظيم الشعب ـ الأمةـ سياسيا او عقائديا وحتى وطنيا سيؤدي الى تماسكه، والتماسك سيؤدي الى انتهاء عقيدة السلطة التي حكمت وجود خصمنا التاريخي، وهو يسعى بإصرار لعزلنا عن امتداداتنا العقائدية، وإذا استحال عليه هذا السعي فان البديل عنده إنهاكنا باستمرار وتوجيه أقسى الضربات لنا وبتركيز عال، لإخراج قوانا الفاعلة مبكرا من حلبة الصراع كي يعود ( المتسلط الآخرـ للسيطرة على الشعب وتحويل [ المثال] الى [أمثولة ] او [أضحوكة].
ان الضرورات الإستراتيجية لأي طرف من إطراف الصراع ـ ومخطيْ من يصفه بغير هذا الوصف لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وليس من شك ان التغيرات التي حصلت عندنا هي من نمط التحولات الكبرى ، فالذي تلاحق حدوثه بالمنطقة ومنها العراق في السنوات الأخيرة ، وأبرزها النتائج الكبرى لسقوط صدام ، وظهور قوانا السياسية كقوى فاعلة ومؤثرة بالبلاد يستوجب منا ، اذا اردنا الظفر ببناء بلدنا على أسس من الكفاية والعدل ، تطبيق ستراتيجيات ديناميكية، بمستوى التكتيك، تواكب عملية تغيير خصمنا الحضاري لثيابه وجلده باستمرار وفقا لما بات يعرف بالعملية السياسية ـ وهو مصطلح لم يتبلور معناه الدقيق لحد الآن ـ ولعل من المفيد القول ان في الصراعات الكبرى تكون المسائل على درجة مهمة من التعقيد الى الحد الذي تصبح فيه معاني ما يقال هي المشكلة ، بل ان الإيماءات قادرة على خلق أجواء تعطل امكانية أي حوار وهذا بالضبط ما فعله ( الآخر) ومن المؤكد ان الحوار لم يتعطل بسبب سوء الفهم او قصوره او لعدم توفر آليات له ، ولا بسبب قصور بالإحساس بالمسؤولية التاريخية ، بل انه تعطل لعدم وجود اساس له ينطلق من مشتركات قوية ، لأن الزمن فعل فعلته في مجتمعنا وعمق الإختلافات القيمية السائدة فيه وأنتج تمايزا مستندا الى اختلاف بالمواريث التقليدية المؤثرة التي استمكنت لدى الطرف الثاني فأوصل الحالة الاجتماعية الى مستوى الخصومة ، هذا هو التفسير الموضوعي للنموذج العراقي ، ومع انه توصيف مؤلم لكننا ندعي انه تفسير شجاع سمى الأشياء بمسمياتها ، وهذا ما نحتاجه في هذا الزمن بالضبط لإنتاج مجتمع آخر ، ومن المهم هنا التأكيد ان هذا الاستنتاج تخلق بالواقع نتيجة تراكم النماذج الخلافية التي أصبحت فيما بعد تواليها وتناسلها الى سلوك اختلافي وصل الى مستوى عرفي ترقى عند الأزمات الكبرى الى مرتبة القانون ، مستبعدين تماما تفسير المصادفة من التحليل السيميائي.
اننا ووفقا لما تبديه الوقائع الميدانية ، وقعنا في أدائنا السياسي بخطأ مفاده اننا قسنا السلطة بمقاييس لم يعتادها محيطنا ، فالسلطة مابرحت عنده قبيلة في حين اننا نزعنا الى الديموقراطية كمقياس للسلطة ، وهو نزوع ينسجم مع تاريخنا ومع محتوانا العقائدي ، وبديهي ان هناك بونا شاسعا بين المقياسين او قل المنهجين ، والديموقراطية الدستورية القانونية المؤدية الى ضوابط وتوازنان تحمي عملية صنع القرار في مختلف البنية المؤسساتية التي تشكلت بعيد 9ـ4ـ 2007 كان من المفروض ان تبني ((مؤسسة الهدف)) وليس ((مؤسسة السلطة)) ، والسلطة ستكون وفقا لهذا التصور أداة لتنفيذ الهدف ، ومن المتعين ان لا ترتبط قيمة هذه المؤسسة بنجاحها وفشلها بتحقيق الهدف بل أيضا بشرعيتها بالأساس ، وحينما ينبغي ان تكون الدولة ((مؤسسة هدف)) فهذا يعني بالحقيقة ان تعمل من اجل بناء تصور ستراتيجي كامل على كل المستويات ، ومن بين مفردات هذا التصور محاور ثلاثة: المؤسسة ذاتها هيكليا والأمن والعمل الداخلي ، وعلى صعيد المؤسسة ذاتها هيكليا استطاع الآخر عن قصد تصميمي إفراغ المحتوى المؤسساتي من دولة الهدف ، ونجح في ذلك نجاحا كبيرا الى الحد الذي تولدت فجوة بمستوى الافتراق بين الشعب والمؤسسة التي كما يصف احد المحللين ان الآخر استطاع ان يضع على جانبي عيون رجالها مانعي نظر ليكون نظرهم باتجاه واحد فقط هو اتجاه المصالح الشخصية بالأساس والفئوية بدرجة اقل ، والمصاديق على ذلك كثير ، وهناك معطى زائف تبدو فيه الصورة وكأن الطرح الطائفي او الفئوي قد انحسر من( المؤسسة ) لكنه بالحقيقة انحسر لانشغال رجال (المؤسسة ) بمنافعهم الشخصية وتطويرها وبما يصل الى مستوى التسابق بين أعضاء (المؤسسة) والنماذج أكثر من ان تحصى . وعلى صعيد الأمن نستطيع القول ان كل دولة لها في مجال الأمن ثلاثة مستويات لتحقيق أهدافها : مستوى الستراتيجية العليا ومستوى التخطيط الميداني ومستوى التكتيك، وهو تنفيذ مهام التخطيط الميداني المبني على الستراتيجية العليا ، وبالحقيقة لم نفعل شيئا من ذلك على الإطلاق متذرعين اولا بان الوضع ليس في أيدينا بل في يد المحتل وهي ذريعة جاهزة دوما بيد من لا يريدتحمل المسؤولية ويشطب أياما من روزنامة المنصب ، وثانيا اننا اخترنا او قل (قبلنا) لن نولي المسؤولية لأعقد ملفاتنا الى رجال حملتهم الصدفة او الوصولية وحدها الى مستوى القرار او صنعه او تنفيذه ، وكان علينا ان نتعلم ونعلم هؤلاء ان الدولة الحديثة ليست أداة للسلطة وانما هي اداة لتحقيق الستراتيجيات العليا وبعدها نترك مائة زهرة لتتفتح على حد وصف ماوتسي تونغ!! اما على مستوى العمل الداخلي ، أي مؤسسات الدولة ـ الحكومة فمازالت تدار بذات الإسلوب الذي كان معتمدا طيلة سنوات الإستلاب، ووجد من يسعى لترسيخه اما لغياب النموذج او لنقص التجربة او تعمدا وإمعانا بالتخريب والخراب . والتخريب شيْ والخراب آخر.
ولا يضبط الاختلاف في الآراء بإزاحة بعضها لبعض كما يريد (الآخر) بل بالرجوع الى المنطق العقلاني الذي انتج قوانين صنعها صناع العقل لتنفذ، لا ان توضع على الرفوف،اما قصورا وخشية ( لا نقول جبنا) او لأن بعضنا بات طرفا بمقتضى وضعها على الرف ! وبالنسبة لنا كنا طوال الأربع سنين المنقضية ( متلقي صدمات ) في معظم الأحوال ولم نستوعب برامج الآخر وخططه بل كنا نعمل وفقا لقانون الفعل وردته وهذا كان مستوى أداؤنا بلا اختيار ، ان الحقيقة ناصعة تماما ، فالآخر لديه برامج وخطط قامت عليها مواقفه ، ووفقا لها شارك بالعملية السياسية بناءا على توقيتاته لا توقيتاتنا او التوقيتات المستحقة ، ولقد مارس السياسة باسلوب اللعبة وليس باسلوب العملية وشتان مابين الأسلوبين ، ولعبتهم كانت رخيصة التكاليف ـ بالقتل في معظم الأحيان ـ للحصول على تنازلا ت لا يقدمون مقابلها شيئا .. وأفضل ما قدموه كان قصائد شعر تتغنى بأمجاد غابرة لسعد والقعقاع ليس إلا ! ثم ننتبه أحيانا لكن بعد فوات الوقت وتسارع الزمان وتساقط المزيد من الضحايا وزوال الكثير من المكتسبات او الالتفاف عليها بإفراغ محتواها ، وحينما ننتبه نغضب ، وهذا بالضبط ما يريدون لأن بعد الغضب لاحوار. أليس بعد كل ما تناولناه اننا بحاجة الى مراجعة جادة لما قدمناه او ما يسعى (الآخر ) الى ان ينتزعه منا بعنوان الوطنية والشعب الواحد ووحدة العراق ؟ ثم السنا بحاجة مؤكدة الى ان نحتكم الى الذين دفعونا الى الأمام نسألهم ما اذا كانوا راضين عنا وعن ادائنا؟ فربما نجد بينهم من يرشدنا الى طريق الصواب، فنحن وان كنا [ربما] من الفرسان او من الشعراء او من المخلصين لمبادئنا ـ حتى ـ الموت شهادة، وهذا أسهل ما عندنا تقديمه، لكن ذلك ليس المطلوب في صراعنا من اجل إثبات وجودنا، وعلمني كيف أعيش واعمر البلاد في سبيل الله، فبل إن تعلمني كيف أموت في سبيل الله، وهل يعي من وضعناهم بالأمام ليس هناك من منطق مشترك بين الفروسية والشعر والبطولة والرجولة والإخلاص وبين إدارة الأعمال وإدارة الصراعات والأزمات في هذا الزمن وكل زمان ؟
https://telegram.me/buratha