كان اللقاء الاول في مرآب للسيارات عند اطراف العاصمة الاردنية عمان في اول خروج لنا من العراق قبل عقد من الزمن باحثين عن وجه يشبه وجه والدتي ، تلك هي خالتي التي لم نرها يوماً فلقد اخذتها الغربة الى حيث اللالقاء ولتأتي شاهقة من بعيد مرتمية في احضان اختها الكبرى بعد فراق عقدين من الزمن في منظر ابكى كل من حولنا والذين اعتادوا رؤية هكذا مناظر للعراقيين وقفت اتأمل في ثواني وجهاً شابه وجه والدتي كثيراً مع أولاد وبنات تبادلت معهم نظرات استطلاعية في محاولة لربط الاسماء التي تخزتنها ذاكرتي مع وجوه عرفتها بالصور فقط ولاسمع صرخة كتمها عناق قوي ودموع حارة تنهمر على اكتفافي ، كاد هذا الصوت ان يختفي فلقد احسست بأرتخاء الايدي فسندتها بيدي ، كانت تلك هي خالتي التي قتلتها غربة أوربا لسنين طويلة .
كانت التساؤلات عن اولادها تملىء عقلي كيف هم ؟ وكيف يتصرفون ؟ وما هي معلوماتهم عن العراق ؟ وهل يتكلمون العربية بطلاقة ؟ فلقد كانوا جميعا قد ولدوا هناك ، ونحن في طريقنا الى مكان غريب اجتمع فيه الاقارب الغرباء !! كنت انتظر ان ينطقوا بكلمة لاجد لاسئلتي اجوبة وقد احسست بالطمانينة وهم يتكلمون باللهجة العراقية غير ان الايام قد مرت لتكشف لي ان الاميال التي تبتعد بها عاصمتهم عن عاصمتنا لم تزل باقية رغم انها قد اسـُتبدلت بأمتار معدودة فيما بيننا ، فشلت محاولاتي في أيجاد موضوع نشترك في الحديث فيه فكل حديث كان يتحول الى قطبين منفصلين فالاختلاف قد سرى من مجتمعات وثقافات ورؤى الى عادات وتقاليد نستغربها ويستغربون استغرابنا لها مرت الايام على هذا النحو لم اعرف فيها الا شباب وشابات يافعين ليس لهم أدنى معرفة عن ماضي فهم لا يتكلمون الا عن الحاضر والمستقبل واطفال لا يعرفون غير لغة الشكولاتة الاوربية التي اعطتهم من الحرية الشيء الكثير وحرمت ذويهم من حق تربيتهم على وفق عاداتهم .
لم اسمح لافكاري ان تعدهم غرباء عنا رغم ان هذا الاحساس ساورني بشدة وكنت دائمة البحث لهم عن تفسيرات لافكارهم واحلامهم وكنت احاول المقارنة بيننا وبينهم فربما كان الخطأ فينا فتركيزنا على الماضي وعلى ثوابت لا نتهاون فيها ربما يبعدنا عن مستقبل مشرق !!! كنت اراهم يؤدون فرائض دينهم فهم يصلون ويتكلمون عن سفراتهم الى دول اخرى في اوربا كبريطانيا مثلا لحضور مراسيم دينية ، غير انني لم اقتنع بالامر رغم صدقهم فثمة حلقة مفقودة تصعب علي صياغتها في كلمات كان الاحساس غائبا فكلمة محمد وعلي والحسين تخرج باردة برودة الثلوج التي تملىء أوطانهم ، نعم لقد غدت تلك الاراضي اوطاننا لاهلنا لم استطع تشبيههم الا بنبتة في كأس ماء تنمو غير ان جذورها في الماء !!!.
بعد هذا اللقاء الذي لم يستمر الا أياماً رجعت لبلدي الاسير ولم اتصور يوماً انني سالتقيهم ثانية ولم تهزني لهفة الشوق الى لقاءهم !! وبعد سقوط الصنم والذي حطم أسوار الفراق الطويل فكثير من العراقيين قد رجعوا لزيارة ذويهم ومنهم أهلينا ، رافقت ابنة خالتي الى الكاظمية وكربلاء والنجف وسامراء ولم اجد الا فتاة تقبل قطعة معدنية ليس الا !! فلقد غاب الاحساس لمن يترقبهم بقلبه فالشكل العام بات مقبولاً أما اهلهم فقد بان شوقهم بشهقات ودموع صادقة لانه بلدهم !! لقد كانت تلك الفتاة تتفاجىء برؤية جنازة تدخل الى المرقد ! ومن الصحاري بين كربلاء والنجف ولتبحث عيناها عن الاوز الذي الفته في بحيرات على طرق هولندا والمانية وفرنسا واسبانيا وتبكي امام منازل النجف ظناً منها انهم هدمت تواً رغم ان عوائل تسكنها !!! ولم اعرف هل ابكي حالها او ابكي حال بلدي الذي يستغربه اهله !!!
وفي زيارة اخيرة لهم تعرفت فيها لاول مرة على علي وهو الابن الاصغر ذو السبع سنوات وكنت اعلم باني سالتقي نسخة جديدة لمن التقيت سابقاً وذات يوم ونحن جالسون امام التلفاز وجدت اخيرا موضوع مشترك مع علي ذو الملامح الشرقية البحتة وكان ذاك هو القاسم المشترك هو افلام كارتون اتباعه احياناً !!! فما ان ادرك ان لي معلومات عنه حتى بدأنا نتكلم عن الحلقات المضحكة له ونتبادل ضحكات عالية والتي تقاطع محاولتنا لتكملة سرد الحلقة وهنا كسرت الالاف من الاميال بيننا فلقد غدونا اصدقاء !!!
وهنا سألته اجراء لقاء معه ينشر عبر الانترنيت !! فوافق دون ان يعلم ما معنى اللقاء ، جلبت ورقة وقلم وبدأت اساله ما يدور في ذهني وكانت الوالدة ترقب اجوبته وتصحح له وتبحث له عن اعذار وان اللغة هي مشكلة وانه لا يجيد التعبير رغم اني وجدته صادقاً جدا فتوجهت لها سائلة تركه يجيب كما يحب كنت اود ان اقول لها ان هذا الطفل دمه دمي فلا تظني للحظة ان بعده الوجداني والتربوي والديني سيفرحني فكما اني مؤمنة بمظلومية الطفل العراقي في الداخل فاني انزف الماً على الطفل العراقي بجنسية اخرى . واليكم اللقاء والذي ارجو تقدير ان الكلام صادر عن طفل وبالحرف الواحد واترك لكم قراءة ما بين السطور .
بغداد : وين تعيش ؟ وكم لغة تتكلم ؟ علي : اعيش في .... واتكلم الفرنسية والعربية .بغداد : هل تذهب للمدرسة ؟ شكد تبقة ؟علي : نعم ، اذهب للمدرسة مرتان الاولى صباحا وبعد الظهر .بغداد : ما اسم معلمتك ؟ وهل لك اصدقاء وما اسماءهم علي : مدام آن واصدقائي اغبن ، سبستيان والياس المغربي .بغداد : من هو الله ؟علي : ربنا وهو في السماء بغداد : هل له اولاد ؟علي : بالمدرسة يكولون لديه وبالبيت لا !!!!! ( ولم يدرك لماذا ؟ ) بغداد : ماذا تخبركم المعلمة ؟علي : مدام آن تدرسنا القراءة ونصنع اشياء معاً أما مدام فيفيان دائما تتحدث عن رجل بثوب اصفر اسمه ( jesus ) ( ادركت انه نبي الله المسيح عليه السلام ) .بغداد : وهل هو رجل طيب ؟علي : طبعا رجل مسلم هواية حباب !!. ( المفردات عنده مجردة من أي معنى ) بغداد : شنو يعني عراق علي : بلد بغداد : شبي العراق علي : كلها حرب ، صدام حسين مات الله ميحفظة !!بغداد : ليش حرب ؟علي : اليزيد ، صدام ، بوش ، امريكا !!!بغداد : من هو بابا نوئيل ؟علي : واحد يجيب هدايا .بغداد: وهل جلب هدية لك ذات يوم. علي : لا ، هو جذابي ، همة يجذبون علينة بغداد : منو ؟علي : الوهابية !!!بغداد : من هو الامام المهدي ؟علي : موجود ( مؤكداً !!) هو يشوفنة احنة لا .
وهنا طلب مني علي التوقف فلقد تعب من الاسئلة وصادف ان ذهبنا الى الحرم المقدس بذات الليلة معاً وبينما انا امسك بيده مر موكب عزاء وكانت القصائد عن الامام الكاظم عليه السلام فوقفنا على مقربة منه وصدمني منظر علي وهو يضع اصابعه في اذنيه فأخبرته لماذا فأجاب مهتاباً ( صوتهم عالي ) فطلبت منه ان يخفض يده وشجعته على ان يذهب معهم الا انه ابى فتركته ساحبة عبائتي على وجهي لاجعلها خيمة لي اندب فيها امامي واهلي وبلدي وطفلي الذي يجرح امامي دون قصد ضاربة بكفي على قلبي الجريح ولاصرخ بصوت لم يسمعه احد لان اصوات الموالين الصادقة غطت اصواتنا مهما علت وكان علي يرفع عبائتي ليراني بنظرة لن انساها لامسح دموعي سريعاً واومىء له ان اذهب ومرت دقائق نسيت فيها ان هناك طفلاَ هو مسؤوليتي وعندما ادركت ذلك وبحثت عنه وجدته على مقربة مني وكان يضرب بيده على صدره فأجهشت بالبكاء حامدة الله على هذه الفطرة السليمة .
مسكت بيد علي وفي طريق العودة أمطر فمه أسئلة عن هؤلاء الشباب ؟ فأخبرته انهم يبكون اماماً مظلوماً فاخبرني الحسين ؟!! فاخبرته انه حفيد له اسمه الكاظم فقال ( أي ماما دائما تبجي عليهم ) فسالته لماذا نبكي عليهم ؟ فاخبرني لانهم ماتوا ؟ فاخبرتهم ان جدنا قد مات ايضا فلماذا لا نبكي بهذه الصورة !! فسكت فأخبرته ان ثمة مجرم يدعى هارون الرشيد قد حبس امامنا وسردت عليه القصة بمفردات يستوعبها طفل بعمره وبينما انا اخبره القصة اعتصرت يده عصرة تألم منها جدا ً فصرخ انها مؤلمة فاخبرته بأن الامام ع قد قيدوه بالحديد واعتصروا يده الشريفة !!! وهنا كنا قد وصلنا المنزل .
في اليوم التالي صحا علي ولم يطلب اعداد الفطور كعادته فلقد توجه بسؤاله لي لماذا فعل هذا هارون !!! فأندهشت الام للامر واخفيت فرحتي الكبيرة وتسائلت متجاهلة أي هارون فقفز شارحا لي القصة كما رويتها وطالب المزيد!! ، تلك الطفولة المظلومة في غياهب الغربة لابد لها من معين لابد لها من جهات تحتضن تساؤلاتها بشكل مكثف ، نعم لا اللوم من هاجر الى بلاد الغربة فبتلك الهجرة ضمنوا حياتهم وكرامتهم المهانة في بلدهم الجريح ونالوا ما كان يحلم به كل عراقي لا يرضى بالذلة قال تعالى (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .
الا ان السؤال ماذا بعد الهجرة هل نغتر بتلك المجتمعات ونذوب فيها بسعة الزمن الذي طال ؟ هل تجذبنا الازياء والاطعمة عن تربية ابناءنا ؟ وهل ان غاب الاب عن الاسرة طلبا للمعيشة في حياة صعبة تنسى الام دورها ؟ وان لم تنسى دورها هل ان الذي تؤديه كافي ؟ هل صلاة الاولاد في الغربة هي دليل ايمانهم ؟!! وهل ما نخبرهم به كافي ؟ هل تقضي الام مع اولادها وقتا بقدر ما تقضيه في الاسواق ؟ وان كانت حبيسة منزل تبكي الوطن ليل نهار هل تعلم ما يفعل اولادها في الغرفة المجاورة ؟ كل هذه اسئلة لا يجيب عنها الا مغترب .
الهجمة شرسة على مذهبنا السامي ولابد من التسلح بالايمان من اجل ان لا نخسر على اقل تقدير انفسنا واولادنا الذي هم اساس الجيل القادم الذي نخشى عليه وسط كل هذه التراكمات المعرفية والواقعية ، فطفل المذهب داخل العراق نخشى عليه من اليتم والجهل والقتل وطفل الخارج نخشى عليه الضياع والله المستعان بين هذا وذاك ولابد من زراعة بذرة المعرفة الدينية في نفوس اطفالنا مبكرا فربما قال قائل ان علي صغير على هكذا مفردات ومعاني ولازال الوقت امامه كبير ليفهم ! نقول ان الوقت القادم لعلي سيحمل له ابواب دنيوية ملئها المكاسب والرغبة سينبهر علي بالكمبيوتر والعابه وبالموبايل ووعود معلمته اكثر من قصصنا الحزينة !!! ولسنا بصدد اعداد جيل لا يهتم بالحاضر والمستقبل المتطور والذي يخدم اوطاننا الا اننا نتمنى ان يهتم بكل هذا بعد ان تمتد جذروه في الارض لا في الماء لانطمئن ان الرياح مهما كانت قوية لن تستطيع ان تقلع هذه النبتة الشيعية .
نسال الله ان يوفق الجميع من اجل تربية صالحة تفرح امام زماننا بنتائجها سواء لاطفال بجنسية عراقية ام لاطفال عراقيين بجنسية اخرى واسال الله ان يكتب لعلي السلامة فها هو يغادرنا عن قريب وكم اتمنى ان لا ينسى القصة حال ان يصل ! ولا يسعني في الختام الا ان اتذكر كلام الشيخ الوائلي رحمه الله وهو يطالب ، اثر رسالة وصلت له ، باقامة مدارس عربية في الخارج فهي مهمة جدا لمن طالت غربته وكان يعتب على المتمكنين !! رحمك الله ايها الشيخ الذي لم يقصر مع ابناء العراق في الغربة ولا حتى معنا فلقد كنا ننتظر صوتك الجهوري على اذاعات اعتبرها البعث معادية ولنغربل كلماتك المنيرة من تشويش البعث الاسود !!! ولننتظرك طويلاً غير ان فرحة العودة الى البلد قد اوقفت قلبك المؤمن ولنتألم كما هو حالنا دائما فالحمد لله رب العالمين واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى اله الغر الميامين وسلم تسلميا كثيرا .
اختكم المهندسة بغداد
https://telegram.me/buratha