المقالات

الحسينيون لا يعتدون...

788 22:15:00 2013-01-11

خالد حسين الشطي - كاتب كويتي

في الجوار، إلى الشمال من بلادنا، حيث تنـتهي الصحراء القاحلة بخضرة الحـضارة وسـوادها، وأمواج الرافـدين المتلاطمة، وجـديد الإسلام الذي جمع البصرة بالكوفة، فالتقى الفقه باللغة، والتفسير بالحكمة، والرأي بالحديث، وأسس في حاضرنا لربيع العرب (حقاً، قبل أن يختطفه الأدعياء) الذي أطاح بطاغية العصر... تتشكل ظاهرة فريدة، وتشرق شمس جديدة من المغرب! في أداء مُعجز يحكي علامات آخر الزمان، وصور يوم الخلاص، والوعد بنشر العدالة وتفوُّق القيم حتى ترعى الشياه والذئاب تحرسها!

لقد عادت القداسة إلى الظهور كما لم تكن في يوم، وعاد الطُهر إلى التألق كما لم يظهـر من قبل، وعاد الشعب إلى دينه واحتكم إلى قيم مذهبه، ورجع العـراق إلى هويته التي جعلـت أمير المؤمنين ينـقل عاصمته من الحجـاز إليه... فلتأمن بلادي سرباً، ولتهنأ عيشاً، ولتقرُّ عيناً... فالحسينيون لا يعتدون.

هذه الملحمة المنعدمة النظير التي سجلهـا العراقيون للـسنة العاشرة على الـتوالي، ما يثبت أصـالتها وينفي كـونها حالة طـارئة ومشهدا عـارضا، في زحف مليوني يتقدَّم سيراً على الأقدام لمئات الأميال، ما زال يطَّرد، ليناهز هذا العام ثمانية عشر مليون نسمة، أخلى البيوت وأفرغ المدن في جُل العراق، ووجّه الشعب وصبَّه كالسيل الجارف تجاه كربلاء...

هذه الملحمة لها عطاءات وتحمل مؤشرات، هي في واقعهـا وحقيقتهـا إلهيـة ربانـية، سـماوية لا أرضـية، بل عـرشيـة لا خلقية، مما يعجـزني ويعجـز غيري عن الإحـاطة بهـا، بل إدراك أدنى مراتبها... ولكن هذا لا يمنع استـشراف عطائها السياسي ورسـالتها الاجتماعـية، ووجوب أن نقـرأها بوعي ودقـة، ونتمعن فيهـا بحكمة وكياسة، وبين هذا وذاك، أرى فيها ما يوفِّر مادة يمكن أن تُخرج بلدي من معضلة تاريخية ما انفكت تعاني منها وتتهددها!

إن ملحمة زيارة الأربعين التي يخطُّها العراقيون في كل عـام تقدم ثقافة جديدة، تفـتقدها المنـطقة، بل لا وجود لهـا في العالم بأسره، وهي تحمل، على الصعيد العملي لا النظري، رسالة القيم الإنسانيـة والكمال البشري في ذروة تناهز المجتمع الفـاضل، بعد أن عجز الساسة والقادة عن خلق المديـنة الفاضلة! إن مجتمعاً يبلغ هذا المستوى من معاني الحب والسلام، والتكافل والتعاضد، والتراحم والتواد، والإيثار والإحـسان، والبذل والعطاء، والجـود والكرم، والتسامي على الفـقر والعوز، وكل الجراح التي تـثخنه، فيتوسل بالضـيف ويرجوه أن يتناول من طعـامه أو يتقبَّل خدمته... يكون قد انتقل إلى طور حـضاري نادر في قاموس الإنسانية ومعـانيها، طوى رذائل الغدر والخيانة، وتجاوز العـنف والقسوة، وجـانب الجلافة والصلافة، ودفن كل الرذائل والقبائح في قبر بتكريت، أو أرسلها إلى حضيض يلاقي صـداماً وبعثه، وبقاياه التي ترقص على جراح الشعب العـراقي، وترفع صوره في الفلوجة والأنبار، ومن خلفها التي تعوي برجع صدى خطابه المنحط من طائفيين يترحمـون عليه وتكـفيريين لا يحجـزهم عـن الإرهاب والـتفجير إلا العجـز وعدم الـقدرة، وفي أول فـرصة مـن المكنـة ستراهم يتطايرون أشلاءً ويتوزعون قطعاً من نيران تتسابق إلى جهنم وبئس المصير. إن أهم مـا يستوقفني ككويتي، بعد أن أسجل عجزي عـن الإحاطة بعظمة المشهد كإنسان ومسلم وشيعي... هو الراحة والاطمئنان والسكينة لعودة هذا الشعب إلى قيمه التي غيبتهـا عنه حكومات الجـور السابقة مـن شيوعية إلى عـارفية إلى بعثية، بدأت في المد الأحمر بمطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت، واستمرت في العهد القومي الناصري في معركة الصامتة، ثم في البعث القذر وغزوه الغاشم، وانتهاء بحمَّى التكفير ونذُر القاعدة التي تريد الإفساد في كل الأرض، وأدناها منهم وأقربها إليهم الكويت!

إن عراق اليوم يختلف عنه في الأمس، والأمس البعيد...

ولا أريد الحكومة والنظام السياسي الـذي يتولى عراق اليوم، فـطالمـا تغيرت الحكومات وانقلبت، ولا أريد الأحزاب والمنظمات الفاعلة والمتحكمة، فهي الأخرى لا يمكن الرهان عليها، إنما أريد الملايين التي تتـزاحم، ولكنها لا تتـعارك ولا تتقاتـل، بل تتسابق على الضيافـة والبذل والعـطاء، وتتفنن في خدمة بعـضها وإظهار المحبة والذلة للإخوان حتى تنذر فئـات نفسها لـتغسل أقدام المشاة وتمسح أحذيتهم! مجسـدين قولـه تعالى «رحماء بـينهم»، و«أذلة على المؤمنين»... فأنت أمـام ظاهرة فـريدة، وحالـة وتر ليس لهـا نظير في الحاضر والماضي البشري، حريٌّ بمراكز الدراسات العالمية أن تلاحقها وتجري الأبحاث المعمقة والموسعة عليها، كما ينبغي للاستراتيجيين الكويتيين، وصناع القرار على المدى البعيد في هذا البلد، أن يدرسوها ويتحركوا تجاهها بذكاء.

وبدوري، اقترح أن تنسق حكومتنا في المستقبل، وتعد وتعمل للمساهمة الفاعلة في هذا النشاط الإنساني العظيم، عبر افتتاح مراكز خدماتية ومضايف شعبية على امتداد هذه المسيرة المليونية، باسم أمير البلاد والحكومة الكويتية ومجلس الأمة والهلال الأحمر والجمعيات الإسلامية السنية والشيعية على السواء، ليرى المواطن العراقي العادي الذي لقنته الأنظمة السابقة عـداء الكويت وبغض الكويتيين، ان الكويت حاضرة معه في أهم شعائره، تسـاهم وترفـد وتعين، ويشهـد بنفسه بـطلان الدعايـة التي صورت له الكـويت حاضنـة للتكفير والإرهاب الذي يفجر ويقتل الأبرياء من أبنائها، ويمتهن مذهبها ومقدساتها. لا شيء ينـتزع الأضغان ويخـمد الثار ويطفىء الأحقاد كخطـوات من هذا القبـيل، ولا شيء يجتث أسباب الـعداء والتوتـر بين الجارين، مثل أن يرى العراقي أخاه الكويتي معه وإلى جانبه في مثل هذا الموقف والمشهد العظيم.

لست أدعو لإلغاء وتعطيل سياسة الالتقاء مع الأحزاب العراقية بمختلف توجهاتها، ولكني أدعو لاستراتيجية تتجاوز سياسات هذه الأحـزاب التي تحكـمها مصالحها الخاصة، وتحركها أحياناً أجندات عالمية وإقليمية، إلى اتصال مباشر بـالشعب العـراقي، يخلق المودة والرحمة بيننا، ويقطع الطريق على أي تهديد يطولنا في المستقبل، في ظل قاعدة شعبية ستتمرَّد هذه المرة على أوامر قادتها، كما أبت شراء بضائع الكويت المنتهبة في المرة السابقة.

العراقيون اليوم ليسوا بحـاجة لمساهمتنا في هـذه المسيرة، والمنافسة بينهم والتسابق بلغ الذروة والقمة التي لم توفـر إطعام الزوار واستضافتهم على موائد الشواء وأطباق المأكولات البحرية! ولا غابت عنها أي صورة وشكل من الضيافة يمكن أن يحدس بها كريم...

نحن من بحاجة إلى هذه المساهمة، لبناء ركائز علاقة جديدة تبني لجوار مصيري لن ينفك مع العراق، وجغرافيا هو قدرنا الذي يجب أن نتعايش معه، ونتطلع معه لأمان واستقرار.

خالد حسين الشطي

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
الكوفي
2013-01-12
مقال رائع ورسالة محبة واخوة وتوحد في طريق العز والشموخ وقطع الطريق على الاحزاب والحكومات التي تريد او تفكر مستقبلا في تفتيت اللحمة بين الشعبين الجاريين المسلمين مثلما قام بذلك الطاغية المقبور في غزوه لهذا الشعب الطيب ، تحية لكاتب المقال ولجميع الاقلام التي تعزز اواصر الاخوة والمحبة والتواصل .
زيد
2013-01-11
مقال رائع و يحمل معان قيمة
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك