المقالات

أعواد المشانق جسور الأبرياء إلى بر الأمان


( بقلم : د. حامد العطية )

حاجات الإنسان معروفة، حتى أن بعض علماء النفس رتبوها حسب أهميتها النسبية، ومن أبرزهم العالم المعروف ماسلو الذي وضع هرماً للحاجات البشرية، وأول حاجات الفرد، واكثرها أهمية وتأثيراً في الفكر والسلوك، ليس اللقمة التي يسد بها رمقه ويدفع بها غائلة الجوع ولا السقف الذي يستره ويظلله، بل الأمن، لذا لو تعرض الإنسان العاقل لخطر داهم فلن يتردد  في التضحية بمسكنه ومؤونته في سبيل درء الخطر والنجاة بروحه، ومن قبل علماء النفس تناول الفلاسفة الموضوع بالتحليل والنقاش، وفي مقارنتهم بين حالة الطبيعة المتمثلة في عيش الإنسان في أحضان الطبيعة والحياة في تجمعات بشرية أو مجتمعات ابتدع الفلاسفة فكرة العقد الاجتماعي، وهو العقد الافتراضي الذي ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع وما تنطوي عليه من واجبات وحقوق متبادلة، ومن الواضح أن الحرية التي يمارسها الفرد في حالة الطبيعة أكبر بكثير مما تتيح له أرقى المجتمعات المتحضرة وأكثرها احتراماً وحفظاً لحقوق الفرد، فلماذا إذن ترك المرء حرية الطبيعة ورضى بقيود المجتمع؟ أجاب الفلاسفة على ذلك بأن الفرد يقبل بحرية مقيدة في المجتمع مقابل حصوله على الأمن والأمان، لذا فمن المنطقي أن يدفع تدني مستوى الأمن في المجتمع بالفرد إلى فسخ العقد الاجتماعي مع مجتمعه، أما بالهجرة بحثاً عن أمان في مجتمع آخر، أو بطلب الأمن في انتماءاته الأضيق داخل الطائفة الدينية أو القبيلة، وهاتان الظاهرتان ماثلتان للعيان في العراق اليوم.

    تباينت استجابة وتكيف مكونات المجتمع العراقي الرئيسة للوضع الأمني الهش في العراق، فقد اعتمد الكورد على قوتهم الذاتية، المتمثلة بقوات البشمركة، واحتموا بمواقفهم شبه المحايدة واللامبالية من الصراع بين الإرهاب والسلطة، مما جعل من منطقة كردستان العراق واحة آمنة وسط عراق مضطرب، أما السنة العرب فقد هاجر المقتدرون مالياً منهم إلى دول الجوار العربي فيما شارك أو رضخ الباقون لسيطرة الجماعات المسلحة الإرهابية، أما اعتقاداً منهم بكون ذلك البديل الوحيد لحفظ أرواحهم أو لعدم امتلاكهم القدرة أو الإرادة للخلاص من ربقة الإرهاب، والشيعة وحدهم اختاروا طلب العيش الآمن ضمن المجتمع العراقي، وهم بالتالي الفئة الوحيدة التي التزمت تماماً بالعقد الاجتماعي للمجتمع العراقي، وحافظت على كيانه المهتز من الاضمحلال وتحملت النتائج الباهضة لهذا الموقف. 

   حصتنا نحن الشيعة من الشهداء أصبحت معروفة، مائة بالمعدل، في كل يوم، وفي الأيام التي لا يبلغون النصاب يكمل أعداؤنا العدد في أيام قادمة، هل تعودنا على ذلك؟ بالفعل أصبح البعض منا يردد أن الشهادة هي طريقنا، ولولا يقيني بأن نواياهم طيبة ودوافعهم حسنة لقسوت عليهم بالكلام، وأقول لهم بأن الله أمر عباده المخلصين بالإحياء لا القتل، لذا فأنا يا أخوتي مشروع حياة لا مشروع شهادة، ومن يريد أن يرسلني إلى مصاف الشهداء، وعلى الرغم من يقيني بعظم جزاءهم عند الله، سأرسله إلى سقر بأقصر الطرق، إن استطعت، ومن دون تردد، بل لو كنت هابيل لقطعت يد أخي قابيل المددودة لقتلي، ولو تمادى لقطعت رقبته.

     الكل يريد الحياة ماعدا اعداء الإنسانية من الارهابيين، وعلى الجميع المساهمة في عمليات الإحياء لأنفسهم وغيرهم، والقصاص هو وسيلة رئيسة من وسائل المجتمع للمحافظة على الأمن والوفاء بواجباته تجاه أفراد المجتمع والابقاء على العقد الاجتماعي، ولا يكون القصاص فعالاً إلا إذا كان عادلاً، فأنا لست من دعاة العقاب الجماعي على طريقة الطغاة من حكام الاعراب لأنه الهمجية بعينها، وأرفض أخذ البريء بجريرة المذنب على أساس الأعراف العشائرية إذ لا تزر وزارة وزر أخرى، وأعارض بشدة إصدار الأحكام على أساس الظن لأن بعض الظن إثم ولا يغني عن الحق شيئاً، كما أن الانتقام القبلي على أساس قاعدة في الجريرة تشترك العشيرة عادة جاهلية منافية لمباديء العدل والإنسانية، ورأس العدل الاعتراف بحق كل متهم في المثول أمام محاكمة وتمكينه من الدفاع عن نفسه، ولا أقبل إلا بأحكام عادلة تصدر على أساس النصوص القانونية والأدلة والقرائن التي لا يرقى لها الشك، ولكن في نفس الوقت فإن التباطؤ والتهاون في معاقبة المذنبين إغراء لأمثالهم لاقتراف المزيد من الجرائم بحق العراقيين العزل الأبرياء، بالأمس في مدينة الصدر وشارع المتنبي ومن بعدها في الحلة، والحصيلة مئات من الشهداء والجرحى والأيتام والثكلى، تضاف الى عشرات الألاف الذين سبقوهم.

    يلزم العقد الاجتماعي أي حكومة تستلم زمام الأمور في العراق بذل ما في استطاعتها لحفظ أمن المواطنين، وباستعمال كافة الوسائل المشروعة، وفي مقدمتها الاقتصاص من الارهابيين والمجرمن الذين يعيثون في الأرض العراقية فساداً، ويتفق الجميع على وجود تقصير فادح في هذا الجانب، فبينما تخرج علينا البيانات الحكومية كل يوم بأنباء عن القاء القبض على العشرات واحياناً المئات من الارهابيين لم يحاكم منهم إلا نسبة ضئيلة جداً، كما أن معظم الأحكام الصادرة بحق المدانيين مخففة ولا تتناسب مع فداحة الجرائم المرتكبة، فعلى سبيل المثال قرأنا عن القبض على إرهابيين مختصين بذبح الأبرياء على الهوية الطائفية، وغني عن القول أن كل ضحاياهم من الشيعة، ولكن عيون العراقيين المسهدة من القلق والأرق لم تكحلها أنباء تنفيذ القصاص العادل بهؤلاء العتاة من السفاحين، والأدهى من ذلك ان يطلق سراح البعض منهم بواسطة بعض السياسيين أو يتمكنوا من الفرار ليعاودوا اقتراف جرائمهم.

   إذا كانت وزارة العدل العراقية وجهازها القضائي وغيرهم من المسئولين الحكوميين يجهلون كيفية التعامل قضائياً مع الارهاب فليتعلموا من غيرهم، ولنأخذ على سبيل المثال الأسلوبين الأمريكي والإيراني، فبعد انقضاض القوات الأمريكية على أوكار منظمة القاعدة الإرهابية في أفغانستان وابادة الألاف منهم أسرت المئات من قادتهم وأودعتهم في سجن جوانتنامو وسجون سرية في عدد من الدول الأوروبية، كما أوكلت بعدد من الدول، من ضمنها دول عربية، التحقيق مع عدد من السجناء واستخدام التعذيب للحصول على المعلومات الاستخبارية، ولا يخفي المسئولون الأمريكان ترخيصهم لقواهم الأمنية بقتل الارهابيين أو القاء القبض عليهم في أي مكان من العالم.

   وقبل أسابيع قليلة انفجرت عبوة ناسفة بحافلة تقل ثلة من حراس الثورة في منطقة نائية في جمهورية إيران الإسلامية، مما ادى إلى مصرع وجرح عدد منهم، وسارعت السلطات الإيرانية المختصة إلى التحري عن الفاعلين والقبض على أعضاء خلية إرهابية مرتبطة بتنظيم القاعدة في الباكستان، ولم ينقض وقت طويل حتى ظهرت علينا وسائل الإعلام الإيرانية بشريط يصور إعدام الرئيس المدبر للعمل الإرهابي، وبعدها قرأنا عن مقتل المزيد من الإرهابيين، ثم انقطع دابرهم.

    العراق بأمس الحاجة لمثل هذا التصميم في مكافحة الإرهاب والسرعة في اكتشاف مصادره ومخططيه ومنفذيه، والحزم والصرامة في استئصاله من الجذور، ومن دون ذلك فإن الأمن لن يستتب في ربوع بلدنا، وبالتالي فإننا نقترب حثيثاً من نقطة الانهيار التام للعقد الاجتماعي، فعندما ينتهي صبر الشيعة، وهم الضمان الوحيد لهذا العقد، بسبب استمرار العمليات الارهابية أو فقدانهم الثقة بالعملية السياسية نتيجة تغيير حكومي يخل بالاستحقاقات البرلمانية، فإن آخر السدود أمام سيل الغضب الشيعي ستنهار وآنذاك لن ينفع الندم، لذا فقد يكون خلاص العراق الوحيد في نصب أعواد المشانق للإرهابيين.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك