زهراء محمد
قبل اكثر من عشرين سنة كنت ادرس الطب البديل في Homeopathy School في بريطانيا.
في خلال ايام دراستى في السنة الاولى كان معي في الصف الدراسي وبطبيعة الحال طالبات من مختلف البلدان والاعراق.. بعدها بأشهر جرت العادة، وخلال فترات الاستراحة، كنا إما نقضي الوقت في غرفة جانبية مخصصة للطلاب كنت أطلق عليها إسم (صومعة)، كنا نجلس فيها ونتبادل الاحاديث بمخلتف تشعباته، واحدة تحكي عن أهلها، وأخرى عن عادات مجتمعها، وثالثة عن دراستها وهكذا.. وبطبيعة الحال كان تاريخ واحداث بقاع المعمورة لكل منا يشغل حيزاً كبيراً من أطراف الاحاديث تلكم.
كانت من بين الطالبات، طالبة يمنية تنظر اليّ دوما نظرات مليئة بالحقد والكراهية، لكوني دوما كنت اتكلم عن ظروف بلدي المأساوية وقساوة النظام، كانت تتصدى دوما للدفاع عن صدام وتتهمني بالمبالغة، كان الحديث بيننا دوما محتدما، اعمتها عنصريتها وعصبيتها.اليمنية هذه والعلم عند الله لم تأتي لغرض تحصيل العلم بحد ذاته، وانما وكأن مهمتها كانت فقط للترصد ومراقبة الطلبة العرب، وهي بعد أشهر قليلة إختفت من الكلية ولم يعد لها أثر.
ولعلاقة مواد الكورس بحياة الانسان وتفاعله مع بيئته وتأثيراتها على حياة وصحة الفرد اليومية، طلبت يوما منّا الاستاذة ان يكتب كل طالب قطعة انسانية اثرت على حياته، بهدف ان تربط ذلك بعلاجات الطب البديل.. بطبيعة الحال ليس هناك اصدق وأعمق تأثيراً ان اتناول ما مررت به من تجربة مأساوية في بلدي العراق على يد حاكم دموي طائفي بكل معنى الكلمة.. كانت تجربة تبكي الصغير قبل الكبير.. وعندما بدأت بكتابة ذكرياتي المؤلمة تلك لم استطع ان اتمالك نفسي ودموعي تتصبب، واستاذتي ترمقني بنظرات حيرى!! .. فهي لا تعرف بعد سبب بكائي.. كنت ابكي بشدة وكأنها بسؤالها ذاك افاقتني من عالم وهمي كنت فيه لسنين خلت أو ذاكرة حاولت جاهدة ان اكبحها.. واذا بيد تعطيني بضعة من اوراق المناشف..وبعد انتهاءنا من الكتابة جمعت الاستاذة الاوراق كلها فجلست على منضدتها امامنا وهي تتصفح الاوراق، رأيتها تتوقف عند احداهن وهي تكابر نفسها، وبين الحين والاخر تمسح دمعة تنسال من عينيها.. وبقيت فترة صامتة واخيرا قالت سوف اعطيكم استراحة قصيرة ثم نعاود المحاضرة.
لم اقوى على مغادرة غرفة الدراسة، ورحت اتأمل التلة التي يكسوها الثلج في حديقة الكلية وانظر الى تلك الشجرة في وسط البحيرة، اغصان باسقة الى الاعلى وكأنها رافعة يديها للسماء في دعاء سرمدي.. هذه الشجرة كانت كالصديقة لي في غربتي وهي في شكلها وفروعها كانها تبتهل لعظمة الخالق.. لطالما كنت اراقب من تلك النافذة اسراب الطيور وهي تمر مهاجرة بارادتها الى البعيد وضجيجها الحزين يذكرّني بنفسي وكيف هُجرت انا بظلم وقسراً، وبعدها بأشهر ارقب عودتها من هجرتها، وهي تمر محلّقة فوقنا في فسحة السماء الشاسعة، انت تشعر بها وهي مبتهجة بعودتها الى موطنها، والفرق بيني وبينهم واضح وكبير..الشيء العجيب انها ترجع الى عين اعشاشها التي خلفّتها ورائها والتي تبقى خالية حتى رجوعها اليها من دون ان تحتلها كائنات اخرى!!
انقضت فترة الاستراحة، رجع كل منّا الى مكانه، نظرت الاستاذة في وجوهنا، حاولت ان ألتهي بصري عن نظراتها اليّ.. تبسمت هي بحنو وتشجيع، وقالت من منكم يبدء بقراءة قطعته وهي تجول بنظرها بين الحضور.. تطوعت صديقة لي فقرأت احداث مرّت في حياتها هي تعتبرها قاسية ومأساوية.. بعدها رأيت نظرات مدرستي نحوي وهذه المرة وبصوت عال قالت نتمنى من زهراء ان تذكر لنا تجربتها وهي تتجه نحوي.. اعطتني الورقة وربتت على كتفي وقالت هيا يا زهراء عليك ان تكوني شجاعة ولا تبالي حين رأت الحزن الواضح في عيناي .. حاولت جاهدة ان اتملص منها، وهي تلح عليّ.
امام اصرارها، نهضت وقلت لها بامكانك ان تحتفظي بالورقة فان مأساتي ليست في تلك الورقة وحسب، فهي مجرد مفتاح لباب ذاكرة خلفها أطنان من ذكريات ولواعج مطبوعة في ذاكرتي ومعجونة في قلبي فرأيت دموعها تنسال قبلي .. ورحت اسرد لهم ما حل بنّا نحن العراقيين على يد مجرم دكتاتور وما جرى علينا الكرد الفيلية بالخصوص .. خّيم الصمت على الحاضرين.
غالبت نفسي، وختمت كلماتي وانا اذكر لهم اسماء إخوتي حيث طلبت المدرسة ذلك (لعلها حاولت ان تكسر بذلك حدّة انفعالي) .. ذكرت اسمائهم وحين اتيت على ذكر اخي الصغير زهير لم اعد اقوى على الاستمرار فهرعت راجعة الى مكاني.. ولم انتبه الّا اياديهم تربت على كتفي ويحضنوني ويواسونني بكلمات حنينة.
احدى الطالبات، اصلها من الهنود الحمر في امريكا (من مناطق اريزونا الامريكية.. حيث اجدادها من المحاربين ضد البيض) حضنتني وهي تجهش بالبكاء.
وقالت همّكي يشبه هّمي..فقلت لها: لماذا خلقكم الله؟؟
فاجابت: لنُقتل!!
وسألتني بدورها: انتم؟ ولماذا خُلقتم؟؟
فقلت لها ليُولد صدام!!
https://telegram.me/buratha