علي محمد البهادلي
من الصعب إعطاء تقويم لحركة مصلح ما أو عظيم من العظماء ، لا سيما إذا كانت هناك عدة معوقات تحول دون ذلك ، منها البعد التأريخي عن تلك المرحلة والتشويش الذي يحصل في نقل الأحداث خصوصاً التشويش السياسي والديني ، ليربط ما كان على وفق ما يشتهي هذا الحاكم أو ذاك القديس ! وهذا ما ينطبق تمام الانطباق على الحركة الإصلاحية للسيد المسيح (ع) فهو عاش في المجتمع اليهودي في فلسطين ، وكانت السيطرة السياسية في فلسطين وعموم الشام للدولة الرومانية ، فهو من جانب محاط بالسيطرة الدينية لرجال الدين اليهود ، وفي الجانب الآخر هو محاط بسيطرة القياصرة من الناحية السياسية . لقد واجه السيد المسيح منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها بتبليغ تعاليمه الإصلاحية رجال الدين اليهود (الصديقيين والفريسيين ) وقد قام بكل ما لديه من قوة في انتقاد سلوكيات هؤلاء الرجال على مرأى ومسمع من كل الناس ، وقد لاقت دعوته هذه الأنصار ، فالتف حوله عدد من الرجال المخلصين ، وأصبح المعلم الأول لتعاليم الشريعة بعد أن سحب البساط من تحت أرجل الفريسيين والصدوقيين ، وبما أن هؤلاء الخاسرين أدركوا أن نهايتهم سوف تكون على يد السيد المسيح ، لذا لجأوا إلى بث الأراجيف والاباطيل حول شخصيته الصافية النقية ؛ كي يبعدوا الناس عنه ويحدوا من تأثير حركته ، لكنهم أخفقوا في ذلك إيما إخفاق . لكن بعد أن استنفدوا كل وسائلهم الخبيثة في تسقيط السيد المسيح دينياً ، لجأوا إلى السلطة السياسية التي كانت لهم عندها حظوة ، فألبوا عليه تلك السلطة ، ليس من الناحية الدينية إذ إن الحاكم أعلن عن حياديته في المسائل الدينية وقال لهم إن هذا الأمر متروك لكم ضمن الاختلافات الدينية التي تحصل في داخل إطار الدين الواحد ، لكنهم نجحوا في خاتمة المطاف من إقناع تلك السلطة بخطر السيد المسيح ، فما كان منها إلا أن صلبته شهيداً مخضباً بدمائه في مشهد تراجيدي يدمي القلب ويبكي العيون ، هذا حسب الرواية الإنجيلية ، ورفع إلى السماء عندما أحدق به الخطر حسب الرواية الإسلامية . هناك عدة إشكالات يسطرها أصحاب النظرة العلمانية إلى حياة السيد المسيح منها أن تعاليمه تجعل الإنسان يستسلم للواقع السيء ويهادن الظلمة والطواغيت بل يستسلم لهم ، وأن تعاليمه ليس فيها ما يستطيع إنسان الوقت الحاضر أن ينطلق بها في مسرح الحياة ، وإنما هي عبارة عن توجيهات للناس أن ترهبنوا وابتعدوا عما تعيشونه من واقع فظيع ، ولعل عبارة كارل ماركس الشهيرة ( إن الدين افيون الشعوب ) ناظرة إلى الدين المسيحي حصراً وإلى تلك التعاليم اليسوعية .
وفي معرض الرد على ما سلف من إشكالات نقول : إن السيد المسيح كان من أكبر الثوار في العالم تضحية وفداءً ، ولم يكن يوماً من الأيام لا مستسلماً ولا وجلاً ، وما انتفاضته الأولى بوجه رجال الدين الانتهازيين إلا إحدى أهم وقفاته التي وقفها ضد الباطل ، وهل يقدر إنسان في مجتمع منغلق كالمجتمع اليهودي أن يخاطب طبقة رجال الدين الذين يتصفون بالاحترام والتبجيل بأقسى أنواع الخطاب ، وأن يوبخهم ويوجه لهم تهماً بالفساد الديني والمالي ، فمرة يصفهم بأنهم أولاد الأفاعي ومرة أخرى بأنهم يلتهمون أموال الأرامل ، ومرة يقول لهم أنتم تلتزمون بالقشور الظاهرية أما باطن الشريعة ولبها فأنتم أبعد ما تكونون عنه على الرغم مما تدعون من تمثيلكم الدين ولباسكم زيه . أما التعاليم الأخلاقية الراقية التي تتهم بالمثالية وابتعادها عن الواقع وأنها تثير السخرية في عالم اليوم ، فهذا أوهن ما يقال عنه إنه من أخلاقيات عصر الصناعة والتكنولوجيا التي لا تنفتح على قضايا الإنسان إلا من خلال المادة والمال والآلة ، أما ما يرتبط بروح الإنسان والجانب الأخلاقي فليس مهماً في نظرهم ، وهل هذه التعاليم إلا تعاليم أصحاب المال الأغنياء لك يدجنوا من خلالها الفقراء ؟!! أما ما يخص الجانب السياسي ، فلا أراني مجبراً على الدخول فيه ؛ لأنه واضح كوضوح الشمس في رائعة النهار ، لكن من أجل الرد فقط نقول : إن أي حركة إصلاحية أو اتجاه سياسي أو حزب صغير عندما يتحرك في هذه الساحات المذكورة ، فإنه لا يملك من الخيارات إلا بما تسمح له الظروف الموضوعية حسب طبيعة الوضع الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي ، وبما أن السيد المسيح لم يكن بدعاً من المصلحين والثوار ، فإنه تعامل مع الظروف الموضوعية بكل واقعية وعقلانية ، فهو لم ينتفض على الدولة ، لعدة أسباب منها أن حركته تكونت من شخص واحد وهو شخصه الكريم ومن ثم بدأت تشق طريقها إلى النمو والتكاثر فليس من الحكمة التورط في عملية استشهادية قبل أن تتوفر الظروف التي تمكن هذه العملية من النجاح أو في تحقيق نتائج طيبة ، وهذا ما لم يكن الواقع الموضوعي يدعمه ، والسبب الآخر هو أن الدعوة بدأت بالبيت الداخلي كما يعبرون ، فأول ما يجب إصلاحه هو الدين اليهودي نتيجة لما طرأ عليه من تحريفات رجال الدين والكهنة والانتهازيين ، وهل يعقل أن يبدأ بالخارج ، والداخل أشبه ما يكون ببيت العنكبوت ، والسبب الثالث هو أن السيد المسيح يدرك جيداً أن الإصلاح الديني والإصلاح الأخلاقي هو ما يجب أن ترتكز عليه أي عملية إصلاح ، فما فائدة تغيير الوضع السياسي والمجتمع مجتمع تسوده مختلف الأمراض الاجتماعية والخرافات والأخلاق الدنيئة والخرافات التي أصبحت جزءً من الدين ومنها تسلط طبقة من رجال الدين بأموال العباد ورقابهم . إذاً لم يكن السيد المسيح كما وصفوه بأنه داعية لأخلاق الضعفاء ولأخلاق الاستسلام ، بل إنه على العكس من ذلك ، كل ما في الأمر أنه كان يتبع تكتيكاً واعياً ، من خلال رصده للواقع ، كي يشق الطريق الواسع نحو الإصلاح الديني وكذلك الإصلاح السياسي ، لكن للأسف لم تسعفه الظروف في التحرك في الجانب الثاني على الرغم من حركته الرائعة في الجانب الاول ، فهو استخدم التقية كثيراً مع السلطات الحاكمة ، لا خوفاً ولا استسلاماً ، ولكن تكتيكاً .
https://telegram.me/buratha