من يوقف العنف الطائفي بين النهرين؟ (محمد مظلوم)
براثا إبنة الأعاجيب القديمة
من يوقف العنف الطائفي بين النهرين؟
المستقبل - الاحد 16 نيسان 2006 - العدد 2240 - نوافذ - صفحة 12
تبدو بغداد وقد دخلت السنة الرابعة من "عهدها الجديد" كأنها جامعة عهود قديمة راسخة على مر الزمن، وأخرى ضائعة في الرحلة للمستقبل، وحاضنة لمواريث شتى تزاحمَ وارثوها ومورِّثوها في لحظة واحدة من قيامتها وهي تنوء بشكل واضح بما تركته السنوات الثلاث الماضية تحديداً من إفزاع لتلك المواريث والعهود.إنه إفزاع بصيغة الصدمة والإيقاظ سيحدد، بلا شك، مستقبلاً هو أبعد من مستقبلها الفردي كمدينة وعاصمة، إذ لا تبدو صورة هذا المستقبل "لدار الخلافة وعاصمة الإمبراطورية الإسلامية" قبل غروب شمسها في المشرق العربي، لا تبدو ثابتة في إطار التصور اليوتوبي الذي رسمه لها البعض قبل سنين ثلاث.
وإذا كان الاحتلال هو الإطار الأوضح الذي احتوى صورة بغداد في السنة الأولى، والعملية السياسية المأزومة والأمن الشخصي المفقود إطاراً آخر لها في السنة الثانية، وجاء نموُّ الفتن واضطراب الهويات العرقية والطائفية ليبرز عنوان صورتها في سنتها الثالثة، فإن السنة الرابعة من عهدها الجديد ستحمل أعباء هذه المراحل جميعاً وتسير إلى المجهول، لا إلى (مستقبل مأمول) كما وصف بول بريمر الثالث مذكراته عن "سنته في العراق" التي سارع إلى إصدارها قبل أن تلوح بشائر واقعية لذلك المستقبل، سوى أن الفوضى لا تزال تضرب أطنابها في أرض الرافدين، دون أن "تخلق" سوى المزيد من فيضان العنف.
شيء آخر حاول أن يستر ما يظهّره واقع الحاضر، ألا وهو الإنشغال بالأزمة السياسية التي أعيى المحللين تأويلُها، فغابت أسئلتهم في بئرها المحيرة، عما إذا كان مسبب الأزمة الاحتلال الأميركي نفسه؟ أم هو إرث الديكتاتورية المقيت، أم لعله التدخل والتأثير الإقليمي؟ أم بفعل الولاء للمرجعيات الدينية وتنازع هذه المرجعيات الرأي، أم بسبب الجذر الطائفي الذي يرافق إعادة بناء نظم الحكم في العراق عادة؟
لكن ألا تكمل سلسلة التساؤلات هذه بعضها البعض لتشكل أصفاداً جديدة ونيوراً مبتكرة أمام انطلاق بلاد أريد لها أن تتحرر من كل ما يمكن أن يجعلها أسيرة الماضي، لا أن ينعتق أبناؤها كالرقيق ليكون عليهم تسديد الثمن في مكان آخر من التاريخ.
إنها أزمة أرادت أن تجعل كل شيء، ما عداها، يبدو عابراً حتى وإن حمل في تجاويفه مؤشراً خطيراً، أو كأنَّ ما عداها من مخاطر ونذر، وفي كل الأحوال، هي مجرد مؤشر نوعي من داخل الأزمة بمساربها وأسبابها التي أشرنا إليها.
التفجيرات المركبة، بثلاثة أجساد مفخخة، التي طالت مسجد "براثا" ببغداد بعد صلاة الجمعة في السابع من نيسان 2006، مرت مثل غيرها من التفجيرات وتفخيخات البشر للبشر، رغم العدد الكبير الذي خلفته من قتلى وجرحى وصل إلى حدود المئتين وخمسين شخصاً بين قتيل وجريح.
الأعداد نفسها لم تعد ذات تأثير نفسي بين العراقيين أنفسهم وهم يراقبون الأرقام تتصاعد باضطراد، ولا حتى لغير العراقيين، ممن أصبحت حكايات الدم العراقي، والعنف الذي يشهده البلد الذي أعياهم أمر التواصل مع فجائعه وقد أضحت معتادة إلى درجة عدم المبالاة أحياناً.
مع هذا فأخبار تفجيرات المساجد تأتي هذه الأيام من كل مكان، من مسجد في كراتشي بباكستان، من عمق آسيا المليء بالفتن الراكدة هو أيضاً، تأتي لتقول لنا كيف علينا أن نحتفل بعيد المولد النبوي، بالأضاحي البشرية التي قامت كل ديانات الله على فكرة الافتداء بالكبش هُدْي الآلهة، ليبقى ابن البشرية يعمر الأرض وينشر السلام فيها!
أخبار أخرى ذات نكهة نووية، تأتي من مسجد أيضاً في أقصى شرق إيران، فلعلها ليست مصادفة أن يعلن أحمدي نجاد بداية عصر العهد الإيراني الجديد، لا بشاهنامة جديدة، بل بتقنية نووية من "مشهد" حيث مرقد الإمام المنفي علي بن موسى الرضا.
ومنذ تفجيرات سامراء وتفجير القبة المذهبة لضريح الإمام علي الهادي، راحت فكرة المسجد/ الثكنة تتضح أكثر فأكثر، لكن المسجد ليس ثكنة "للجهاد النووي" هذه المرة، بل ثكنة للفتن المدججة بالإرث الأسود.
مسجد "براثا" نفسه لم يعد التدقيق في أهميته المتلفعة تحت ركام التاريخ ، واستراتيجيته المعنوية كهدف، أو في طبيعته الخاصة، لم يعد مما يشغل المحللين أو سواهم، بعد أن جرى استهداف جميع المساجد المعروفة في العراق تقريباً.
بيد أن الأمر هنا يتعلق بذلك السؤال الذي أضحى محل خلاف في العراق وخارجه، أكثر من غيره، بل أكثر من استمرار معضلة تشكل الحكومة التي مضت أشهر أربعة، موسم كامل، وهي تتلكأ في إيجاد مخرج لها بعدما أمضت في ردهة الأزمات وقتاً لم يعد معقولاً بعد ذلك.
وسط هذا كله يبقى السؤال الذي لا جوابَ واضحاً له حتى الآن: هل ثمة حرب أهلية في العراق أم لا؟
غموض الإجابة هنا يكمن في كون المتصدين لها يخضعونها للتحليلات أكثر من ارتباطها بواقع الحال، ويسحبونها نحو طبيعة التفسير الاصطلاحي ومقارنة تجارب الأمم في حروبها الأهلية، أكثر من سحبها على الأرض التي باتت تدور عليها حقاً. ذلك أن يوميات الدم العراقي تقول لنا ببساطة إن أعداد من يقتل في العراق يومياً، يفوق في بعض من الأحيان أعداد من يقتلون في أي حرب أخرى! إذن ما أهمية نعت ما يجري في العراق بعد ذلك بكونه حرباً أهلية، أم إقليمية، أم معارك مقاومة أو إرهاب، أم استكمالاً لاحتلال لا يبدو إنه أنجز أهدافه؟ هذه الأعداد لا نعرف أنها تموت إلا في الحروب والكوارث والأوبئة على اختلاف تسمياتها، فلأي من أسباب الموت تنتمي جثث الضحايا التي نراها كل يوم، أو لا نرى في الواقع سوى أشلائها وبقع الدم وبقايا الحاجيات الشخصية للضحايا والتي سرعان ما تتحول وببضع دقائق لا أكثر، إلى أسمال من حياة قديمة، متاحة لكاميرات التصوير العاجلة عبر الفضاء.
ومنذ تفجيرات مرقد العسكريين في سامراء، نَحَتْ بوادر "الحرب" منحى آخر، ليس بتلك الأعداد التي يجري التستر عليها، ومن ثم إعلانها عندما يتصل الأمر بالتباري بالجثث، واستعارة حشود الأضاحي، وتوظيفها في البازار السياسي، ولا في حرب البيانات السياسية من هنا وهناك، ودعوات التهدئة التي لا تخلو من نفاق متبادل، بل في هذا التجييش المضمر بين الأطراف، التي تدعي تمثيل طرفي النزاع الواضحين حتى الآن في العراق: إسلاميي الشيعة وإسلاميي السنة.
خلال ساعات تتوالى الأخبار حتى تبدو لسامعيها كأنها متكررة غير أن معظمها في الواقع مختلف وجديد!:
ـ انفجار قرب مسجد الأمام علي في النجف وعشرات الضحايا والجرحى.
ـ انفجار قرب مرقد أولاد مسلم في المسيب على طريق الحلة.
ـ أئمة مساجد سنية يقتلون بتهمة التكفير والتحريض على العنف الطائفي.
ـ جامع الإمام أبو حنيفة ومساجد أخرى للسنة يجري قصفها بالهاونات وليس تفجيراً بتفخيخ الأجساد، ربما للتمييز بين مديين مختلفين لثقافتين في حرب المراقد والمقامات!
ـ قتل على الاسم وهو ليس هوية طائفية بالضرورة!
وسط هذه الدراما الدموية يستمر مسلسل الاختطاف والعثور اليومي، الذي صار يتقرب من التعثر بجثث الضحايا، الصورة التي وظفها صدام سياسياً في جلسة محاكمته.
ثقافة التطهير الطائفي، وتهجير العوائل القائمة على الجانبين صارت تتركز بشكل خاص في محيط العاصمة في النهروان والمدائن وسامراء وبعقوبة، بعد أن كادت تكتمل في المحافظات، خصوصاً في البصرة والأنبار والموصل.
من أين لهؤلاء البطارقة غير المقدسين الذين يتحدثون عن كون العراق لا يزال بعيداً عن الحرب الأهلية، من أين لهم هذا اليقين لكي يرددوا ذلك بنوع من التباهي. ربما هم لا يدركون وقد أضحوا داخل المسافة الجهنمية الخبيثة للعبة بل ولعلهم من الخائضين فيها، إن البلد واقع في براثن تلك الحرب فعلاً، وما ينبغي عليه هو التخلص منها ومنهم معاً، وإلا فإن حرباً أهلية ستندلع بشكل آخر عندما تصبح مشروع منطقة ولا تعود مجرد أزمة داخلية. إنها الفتن التي راحت تبحث عن تنفيس احتقانها المستور بالبحث عن مجال حيوي قد يجعل منها فتنة طائفية ـ قومية أو حتى متعددة الجنسية.
لهذا فإن عملية تفجير مسجد "براثا" ستحيلنا بشكل تلقائي إلى التاريخ، في محاولة للإجابة على تساؤل مشروع لكنه مقلق حقاً يتعلق بغموض فكرة الثقافة الطائفية في العراق وتعقيداتها، وما قد ينتج عن تلك الثقافة من ممارسات وعقائد عنف، وتطرف شعبي يذهب بالتاريخ بعيداً نحو جغرافيا قديمة!
الإمام في دير الراهب
ذلك إن "براثا"، كما يتضح من الاسم نفسه، مكان لا ينتمي في مبتدئه التاريخي للثقافة العربية ولا للثقافة الإسلامية، فكيف يمكن أن يكون بؤرة في معركة بين الثقافات المتنوعة في بلد تعاقبت على أرضه الحضارات والديانات والعقائد؟
في الفكر الشيعي تكتسب "براثا"، المدينة والمسجد، بعداً يقربها من الأساطير، ويذهب بها نحو قداسة مركبة من تعدد الديانات وتلاقيها في سياق شخصية الإمام علي بن أبي طالب.
على أن "براثا" ترتبط بظهور الفتن الأولى في الإسلام. فقد دخلت في الثقافة الإسلامية في ذات الوقت الذي خرجت فيه فئة من المسلمين على حكم الإمام وعلى كل حكم من بعده فكان الخوارج، وكان أول رفع فعلي للسيف في وجه الخلافة. ذلك أن الأحاديث المتواترة تؤكد أن "براثا" كانت صومعة في الجانب الغربي من نهر دجلة عندما مر بها الإمام بجيشه بعد الفراغ من قتال الخوارج في معركة النهروان، وترتبط تلك الحادثة بحديث "رد الشمس" لدى الشيعة عندما حل عصر ذلك اليوم بأرض بابل "ذات الخسف المتكرر".
لكن "براثا" أبعد من مجرد كونها رمزاً شيعياً يسعى إلى استعادة هيبته في الحاضر، أو مسجداً إسلامياً يرتبط بعهد الخلافة الراشدة، أو ديراً مسيحياً يشير إلى ما قبل الإسلام، أو مزاراً يهودياً قبل هذا أو ذاك، بل هي أبعد كذلك، من بغداد العباسية نفسها ليس بقرن من الزمن عندما نزلها الإمام بجنده، بل بقرون عندما غمرتها مياه دجلة، ربما مرات ومرات، وتحولت إلى خرائب لحضارات وسلالات.
وهذا ما يؤكد أن بغداد هي في الواقع "بغدادات" متعددة، إحداها ما نعرفه بوضوح معقول عن بغداد المنصور، تماماً مثل طروادة التي انشغل عالم الآثار الألماني "هنريش شليمان" بالبحث عنها طيلة حياته بعد أن سكنته كيانياً، بعد أن سحرته حتى خرائبها في "الإلياذة" التي كان يحفظها باليونانية القديمة ويعمد أولادها بمئة بيت منها بدلاً من الإنجيل.
شليمان الذي حفر في الأرض سبع "طروادات" ليصل إلى طروادة بريام ويكتشف قطعاً نحاسية من كنوز المدينة المحترقة كان يقارن ما تبقى من أحجارها ونحاسها بسطور ما كتبه هوميروس في "الإلياذة" حسب ما أخبرنا به ول ديورانت. براثا" بهذا المعنى هي طبقة من طبقات تلك المدن المطورة التي تنطوي عليها بغداد الحالية. إذ أن التسمية ليست عربية كما هو واضح، فلا المعاجم اللغوية ولا معاجم الأمكنة تستطيع أن تغيب الأثر السامي الشرقي في المفردة التي تؤكد المصادر الكلدانية إنها معدلة عن "بريثا" في السريانية، وتعني الوليد (ابناً أو بنتاً) وتعرف بعض المصادر السريانية براثا بأنه "ابن الأعاجيب".
لكن أعاجيب براثا كثيرة يستيقظ جزء منها في قصة الإمام علي مع الراهب، عندما رأى الإمام يصلي بمئة ألف رجل من المقاتلين فسأله عما إذا كان نبياً ليصلي بكل هذا الحشد من الناس، فقال له الإمام شارعاً بمناقشة ستنتهي بإعلان الراهب إسلامه: النبي سيدي وقد مات، فأجاب الراهب فأنت وصي نبي ..
من أعاجيب هذا المكان تعاقب الأنبياء عليه فقد صلى فيه إبراهيم، في طريق هجرته، وكذلك كل من النبي دانيال والنبي حزقيال، عندما كانا أسيرين في السبيين البابليين الأول والثاني على التوالي. أعاجيب براثا تتحدث عن أكثر من سبعين نبياً ووصي نبي صلوا في المكان، الذي لا تزال تمثُل فيه بعض شواخصه، من بينها تلك البئر الذي انبثقت بعد أن أزاح الأمام الصخرة عنها، وكان قد سأل الراهب من أين تشرب فقال له من دجلة، لكنه دلّه على تلك البئر التي عاش الراهب قربها ولم يعرفها ولا تزال تعرف ببئر علي، وتجتذب الكثير من الزوار طلباً لكرامات تتحدث عنها قصص عديدة.
قد تبدو هذه الأعاجيب محجوبة اليوم أمام الأعاجيب الأخرى، التي تبدو أكثر ارتباطاً بالفتن الدائرة حول المراقد والأضرحة والمقامات في العهد الجديد للعراق، منها ما يروي جانباً منها ابن طاووس في"الملاحم والفتن" والنبوءات المقدسة عما يحل بالمنطقة بفعل فتنة "براثا"!
ثم لندقق وإن بشكل عابر في الروايات التاريخية عن الفتن التي عصفت ببغداد، على خلفية الصراع الطبقي، لنرى أثر فكر القرون الوسطى الحي بيننا اليوم وكأنه ابن ساعاته وجزء أساسي في البنية اللا واعية التي تتحكم بثقافتنا في عالم اليوم.
تخبرنا تلك المصادر إن المسجد خرب مرات وهدم عن آخره في حمى العنف الدموي بين حنابلة بغداد وشيعتها، خاصة على خلفية أقامة شعائر عاشوراء بغداد انطلاقاً من ذلك المسجد.
تفاعل الأديان والحضارات في "براثا" لم يحل دون أن يكون هذا المكان نفسه محل تنازع داخلي في التعصب الطائفي خصوصاً خلال الفترة العباسية منتصف القرن الرابع الهجري تحديداً: حيث يذكر ابن كثير جانباً من هذا التنازع بقوله "ثم تسلطت أهل السنة (الحنابلة) على الروافض، فكبسوا مسجدهم، مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القَوَمة".
ومع البويهيين سمحوا "لبراثا" أن تتحول إلى مدرسة للفكر الشيعي إثر ما عرف بعصر الغيبة الكبرى، وكان أبرز منظريها الشيخ المفيد. إلا أن العنف الطائفي لم يتوقف. ولعل ما يورده ابن كثير في البداية والنهاية عن أحداث سنة 367 ما يلخص الأزمة الطائفية التي تماثل في انعكاساتها السلبية الطوفانات والكوارث والحرائق. يقول ابن كثير في ذلك: "وزلزلت بغداد مراراً في هذه السنة وزادت دجلة زيادة كبيرة غرق بسببها خلق كثير وقيل لعضد الدولة: إنّ أهل بغداد قد قلّوا كثيراً بسبب الطاعون، وما وقع بينهم من الفتن بسبب "الشيعة والسنة"، وأصابهم حريق وغرق، فقال: إنّما يهيّج الشرّ بين الناس هؤلاء القصّاص والوعاظ.
تحت تأثير هذه النعرات والجائحات تحول المكان المقدس من مأوى يلجأ إليه الزاهدون وسط بستان من نخيل، إلى مقابر تحتضن الرفات. قطعت أشجار النخيل عبر التاريخ لترتفع محلها شواهد القبور.
نظرية مؤامرة قديمة!
ومع هذا لننظر من جانب آخر إلى حاضر مسجد "براثا" لكي تكتمل الصورة على الجانبين. فهذا المسجد الذي يقع في محيط الكاظمية وتحديداً في منطقة العطيفية التي شهدت أوائل الثمانينات جانباً من موجات التهجير أو ما عرف "بالتسفير" للعراقيين من ذوي التبعية الإيرانية، ظل منذ ذلك التاريخ في عهدة وزارة الأوقاف، مسجداً صغير الشأن، لا يتناسب مع أعاجيبه المروية والمتخيلة والتي بقيت مترسخة في المكبوت، حتى فترة الاحتلال الأميركي، عندما جرت إعادة توزيع إرث وزارة الأوقاف العراقية على أساس طائفي في عهد بريمر، بالفصل المذهبي بينها. لم يكن ذلك الإجراء مما يحقق الحقوق المدنية في ممارسة الشعائر بل بما يكرس الانقسام المذهبي ويؤدي بالنتيجة إلى هوة طائفية تقوم على التثقيف المختلف لا على الثقافة المؤتلفة. عندها خضع هذا المسجد كبقية المساجد إلى معادلة المحاصصة ليس الطائفية فحسب، بل التوافق الداخلي بين التيارات ذات اللون الطائفي الواحد. فبينما جرى التوافق على تقاسم إمامة الجمعة في مسجدي الكوفة والنجف بين "التيار الصدري" و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" على التوالي، كان مسجد "براثا" من حصة رجال الدين المحسوبين على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وتولى إمامة الجمعة فيه الشيخ جلال الدين الصغير عضو المجلس الذي كان والده إماماً للمسجد نفسه في الخمسينات. غير إن الإمامة في عصر السياسي الفقيه لم تتوقف عند حدود الوعظ الديني. حركات الإسلام السياسي لا ترى في المنابر إلا مصادر تثقيف "رسالي" و"مناهج تبليغ ودعوة" وتعبئة لمشروعها. كما أن مشروع تنمية المسجد جرى تقديمه على أي مشروع آخر، لكأن الناس باستطاعتهم أن يجدوا فيه ما لا يجدونه في بيوتهم، ولا في الجامعات أو في المنتديات، المكتبة أو المقبرة، وهي الأشياء المعروفة في المساجد كحّدي حياة وممات تقليديين في رحلة الإنسان المتدين، ليست هذه وحدها ما يتضمنه المكان. كان ثمة إذاعة أطلقت من المسجد بدأت تبث باسم إذاعة السادة، قبل أن تتحول إلى وكالة أنباء تبث الأخبار باسم "وكالة أنباء براثا" كما بدأت الأعمال لزيادة سعة المسجد ليتسع إلى أكثر من عشرة آلاف مصلّ، وارتبطت به مجموعة من المؤسسات التعليمة والمعاهد والمنتديات الاجتماعية ومراكز التثقيف.
لقد جرت إعادة الحياة للمسجد بوصفه مكاناً، قبل أن يعاد تأهيل الإنسان من حوله وقبل أن يجري نزع الظلال الطائفية العميقة من ثقافته، بوصف الإنسان هو المبدع لذلك المكان.
ربما لهذا التنافس المذهبي ذي الجذور التي لا تحمد، وفي حمى الصراع السياسي المشحون بالطائفية المقيتة، جرت محاولات عدة سابقة لاستهداف المسجد وتفجيره كان آخرها محاولة أحبطت قبل شهر واحد.
إذن، ما يجري اليوم وما تقدم من رصد لعنف الحاضر سيُفهم منه بوضوح أن الفكر الطائفي في العراق متجذر تاريخياً، وإن فِتَنهُ لا تنام إلا لتقوم بهمة أمضى ودورة أعنف، ليس صدام أو الاحتلال الأميركي أو الطبقة السياسية الحالية، سوى مستثمرين لها، إيقاظاً ومداعبة وتهييجاً. المجتمع الذي لم يتخلص من العبء الثقيل والإرث الأسود لتاريخ الفتن يعيد صياغة الماضي كنوع من النشاط الخفي والتكرار اللا واعي لاشتراطات الصراع في بغداد القديمة بدل أن تعيد المدينة الحالية صياغة الحياة من راهنها لا من تاريخها.
فجانب الكرخ اليوم يشهد معركة بغداد الكبرى الجديدة، التي كثرت معاركها وتعددت أشكالها وشعارات التلويح بها سواء خلال غزو القوات الأميركية للعراق، وهو ما لم يحدث، أو في انتخابات 2005 بكانونيها الثاني والأول على التوالي. معارك بغداد الجديدة هي معارك طائفية بامتياز، وليس من المناسب حجب الشمس بغربال بعد ذلك.
المدينة المقسومة على ضفتي النهر يراد لها أن تكون رصافة "الشيعة" وكرخ "السنة"، رغم أن التاريخ نفسه لم يتحصل على مثل هذا التقسيم. لكن في عصر الطوائف "المثقفة" ليس من المهم الوجود التاريخي لضريح إمام هؤلاء في ضفة أولئك، وبالعكس، ليس مهماً وجود مئات الآلاف من هؤلاء مختلطين بأولئك على الضفتين، أو متصاهرين في الضفة الواحدة، أو ملتبسين بالتسميات في المنزل الواحد. التهجير بقصد التغيير الديموغرافي قائم على كل الأقدام والسيقان، والتطهير الطائفي بشراً وأضرحة وتقاليد من هنا إلى هناك وبالعكس، طريقة نموذجية لخلق واقع جيو ـ سياسي ـ طائفي، يهيئ، على الأقل، لفيدراليات أقرَّها الدستور. وبعد ذلك ليتسنَّن من لا يريد التهجير أو ليتشيع في واحدة من ضفتي دجلة، أو ليغير إمامه التاريخي، ويبدل اسمه في العائلة الواحدة.
وإذ كان ثمة من يرى أن التهجير الطائفي نفسه لن يشكل علامة على وجود الحرب الأهلية، فإنه لن يستطيع أن يتجاهل على الأقل كون هذه التهجيرات المتبادلة هي نتيجة لعنف متبادل، قد يكون المقدمة الأوضح لحرب لم يعد مهماً نعتها بنعوت ما.
المسافة بين الحرية والفوضى، التطلع إلى الإمام أو الرحلة المعكوسة نحو الماضي، الثقافة التي تدور على نفسها في ظلام القرون، ذلك هو الوجه الأبرز الذي تجلى لطبيعتنا التي لم يتح لها أن تتشكل حقاً خارج طبائع الاستبداد.
فبعد بضعة أشهر فقط من الاحتلال الأميركي لبغداد، كادت الفتنة في جانب الكرخ أن تشتعل مبكراً عندما جرى إطلاق اسم "أبن تيمية" على جامع "أم الطبول" في جانب الكرخ. لكن العقيدة الأساسية "لشيخ الإسلام" في عدد من مؤلفاته الكثيرة سواء في منهاج السنة أو في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" أو في "الصارم المسلول" تقوم أساساً لا على تكفير الآخر"من الأغيار" والتحريض على قتله فحسب، وإنما تقدم عليه شريك العقيدة التوحيدية، الأمر الذي تداركه أهل السنَّة في العراق، وهم الذين يتبعون المذهبين الشافعي والحنفي، وليس الحنبلي الذي يتبعه ابن تيمية فعدلوا التسمية إلى جامع "أم القرى" مقر هيئة علماء المسلمين اليوم.
بقلم:( محمد مظلوم )
"
https://telegram.me/buratha