وليد المشرفاوي
تعاقبت الحضارات وعرفت التعايش وسلكت كل جوانبه(الإنسانية -الفقهية- واللغوية) وأساليبه في (الحوار-المفاوضات-السجال- الجدال) وما يقابلها من أساليب مناهضة له محرضة عليه في(العنف-الاختراق-التجاوز-والعدوان), وقد اختلفت صيغ هذه الأساليب باختلاف الزمان والمكان ومراحل التطور التاريخي , والتعايش وقد يتعرض للانتهاك عندما تنعدم شروطه وتغفل مكوناته في المساواة والعدالة بالحقوق والواجبات لحد انعدام الثقة في قبول العيش مع الآخر,وفي علم السياسة والاجتماع يعني التعايش وجود نواة مشتركة لفئات متناقضة في محيط معين تقبل آراء بعضها البعض وتهضم الخلاف والاختلافات بين الآخر بعيدا عن مبدأ( ألتسقيط والتهميش-التسلط والأحادية والقهر والعنف من خلال الالتزام بمبدأ الاحترام المتبادل لحرية الرأي وطرق تفكيره وسلوكه,إن مفهوم التعايش في تطبيقه المتواضع يحسم أمور كثيرة من عقبات ومخلفات فكرية واجتماعية التي يمسك بها بعض المتزمتين بالطائفية والمذهبية والعنصرية وغيرها من الأمور المفتعلة التي تثير وتأجج الصراع,فالمسلم السني الذي لا يستطيع العيش مع المسلم الشيعي , فانه لن يتمكن أيضا من العيش المشترك مع نظرائه في الانتماء المذهبي والعكس,ولهذا نرى مفهوم التعايش السلمي مفهوما حضاريا , لا يؤسس للعلاقة بين التنوعات السياسية والثقافية في داخل المجتمع , فحسب,بل يؤسس للعلاقة السلمية في داخل الإطار الواحد أيضا, ومن اجل بناء السلم الأهلي والاجتماعي بشكل صحيح , ندعو لإعادة النظر في مفهوم الوحدة , ونفي الخصوصيات , كما ندعو لإعادة النظر في مفهوم العدو ومتواليا ته من التناحر والتقاتل والعداء المفتوح , حيث إننا بحاجة ان نحدد(من نحن ) و (من هم أعداؤنا) ,وذلك حتى يتسنى لنا صياغة ذاتنا الوطنية وتحديد أولوياتها ومشروعات عملها, فالآخر الذي قد نحسبه عدوا لأول وهلة , لو اقتربنا منه لربما علمنا انه صديق يشترك معنا في أكثر خصوصياتنا, لذا ينبغي أن ننظر لموضوع الحوار على أساس انه ممارسة إستراتيجية دائمة , لا عملا تكتيكيا مرحليا , فجميل أن نعرف من (نحن) , لنعرف من هو (الآخر) , فمن نظنه الآخر قد نكتشف انه يدخل في قائمة (نحن) , إن تحاورنا معه بالتي هي أحسن ! ويكفي أن نجلس مع الآخر ونتحاور معه ,ليتعرف كل منا على التصورات الصحيحة تجاه بعضنا البعض , فالله-عز وجل-خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف , لا لنتقاطع , ولا لكي يحمل كل منا الضغينة والحقد تجاه إخوته في الإنسانية , وأتصور إننا لن نعرف أنفسنا جيدا إن لم نتحاور مع الآخر.فالعراق بلد يتسم بالتعددية والتنوع القومي والديني والمذهبي , فعلى المستوى القومي يتوزع العراقيين بين العرب والكورد والتركمان والآشوريين , وعلى المستوى الديني بين المسلمين والمسيحين وبعض المئات من اليهود الذين ذابوا في المجتمع العراقي , وبعض الأقليات الدينية مثل ( الصابئة والايزيدية) وطيلة عقود وعقود من السنين تعايش العراق في ظل هذه التعددية , فلا يمكن موضوعيا وذاتيا إنكار وإغفال وجود هذه التعددية , فضلا عن إن كثيرا من هذه المكونات أسهمت في بناء الدولة العراقية منذ عام 1921.غير إن الحكومات العراقية سيما بعد عام 1963 إلى عام 2003 , مارست سياسات الإقصاء والإنكار والقمع لهذه المكونات , بل حاولت سلخها من هويتها الثقافية والاجتماعية تحت عنوان الأمة العربية الواحدة , والحزب الواحد , والقومية الواحدة , وهذا أمر يخالف ثقافة ومفهوم الاختلاف في الطبيعة البشرية , وقد توجت سياسة القمع والإقصاء والتهجير والإبادة لكثير من القوميات والأديان والمذاهب بدعوى الولاء للخارج , فقد مارس النظام السياسي السابق سياسة تهجير (الكرد الفيليين) بدعوى انتماءاتهم وأصولهم الإيرانية , وإقصاء وإبادة وقمع الشيعة في الوسط والجنوب بدعوى التآمر والانحياز إلى إيران ,وتذويب هوية التركمان القومية والثقافية , وغيرها من الممارسات الشوفينية ضد اغلب مكونات الشعب العراقي الذي يشكلون بحق(امة عراقية). وهذا ما تميز به النظام السياسي الشمولي عن طريق استخدام القوة المسلحة والولاء والانتماء ألقسري لحزب البعث , وإشاعة ثقافة الخضوع بدلا من ثقافة المشاركة في صنع القرار السياسي , مما أدى إلى هجرة الكثير من مواطني العراق إلى الخارج , بلغ عددهم أكثر من خمسة ملايين عراقي في المنافي والهجرة , سيما أحزاب المعارضة السياسية العراقية والمثقفين العراقيين , أما بعد التغير السياسي بعد 9/4/2003 , تغيرت الصورة بشكل عام , فان تأسيس المشروع السياسي الوطني الديمقراطي العراقي كان لزاما عليه الاعتراف والإقرار بحق هذه المكونات في العيش سويا مع بعضها الآخر, انطلاقا من النظرة الإنسانية أولا , ثم التوجه الوطني الذي يفترض أن تشعر به كل المكونات , فلا إنكار ولا إقصاء ولا تهجير ولا تذويب للأقليات القومية والدينية بما في ذلك ثقافتها الخصوصية في ظل النظام السياسي الديمقراطي , فالديمقراطية ترتكز وتؤمن بمبدأ (الحرية) التي تنطوي تحتها حرية العقيدة والضمير والرأي و الرأي الآخر , بغض النظر عن القومية والدين والمذهب , فقد عانى الشيعة والكرد , والكرد الفيليين والتركمان الكثير من سياسات القمع والإبادة والسجون والاعتقالات على يد نظام صدام المقبور , وحاليا الفرصة سانحة لتأكيد هذه المكونات دورها السياسي والاجتماعي في بناء العراق الجديد .إن النظام السياسي الديمقراطي يؤمن بدور الأغلبية السياسية والأقلية السياسية , فعلى المكونات العراقية أن لا تنطلق في عملها السياسي من انتماءاتها القومية والدينية والمذهبية , لان ذلك سيعزز سياسة المحاصصات التي تشكل تهديدا خطيرا للمشروع السياسي الوطني الديمقراطي ,إن مجرد إهمال وإقصاء الأقليات يعني العودة إلى سياسة الديكتاتورية المقيته التي طالما عانى منها شعبنا العراقي , لذلك فان التأكيد على الاهتمام والاعتراف واحترام الأقليات من قبل المكونات الأخرى ,والحكومة ومجلس النواب , هو تأكيد على عراقية هذه المكونات أولا , وتاكيد على جدية المشروع السياسي الوطني الديمقراطي ثانيا , واحترام التوجه الفكري والإنساني ثالثا , وخلاف ذلك لا مجال للحديث عن الديمقراطية في العراق.
https://telegram.me/buratha
