رشا أبي حيدر
تتعرّض مدينتا نبّل والزهراء في ريف حلب السوري، لأسوأ أنواع الحصار منذ أكثر من عام ونصف عام. مأساة يومية يعيشها الأهالي تحت وطأة هجوم قذائف الهاون والخطف والبطالة. وحدها المساعدات التي تصلهم من حين إلى آخر من مناطق الأكراد، صارت باب الأمل للمدنيين الذين فرّقتهم الحرب عن جيرانهم
لم تكن حلا تدرك أنها تعيش رهينة لعبة دولية أكبر بكثير من لعبتها المتواضعة التي لا تفارقها. كانت تمشي أولى خطواتها في باحة المنزل، عندما باغتتها قذيفة هاون. هرعت أمها المفجوعة لتسمع أنين ابنتها الاخير.
ما جرى مع حلا نموذج من المأساة اليومية التي يعيشها أهالي بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي. تبعد البلدتان المتصلتان إحداهما بالأخرى، نحو 20 كيلومتراً عن حلب، وتقعان في منتصف الطريق بين عاصمة الشمال السوري ومدينة أعزاز على الحدود التركية. وفيهما ما يزيد على 70 ألف نسمة. منذ أكثر من عام ونصف العام، يعيش أهالي البلدتين في حصار مأسوي من قبل المسلحين المنتشرين في ريف حلب الشمالي.
تروي أم حلا عباس (35 عاماً) لـ«الأخبار» يوميات الاهالي في نبل، حيث كل أنواع المعاناة: «صراخ الاطفال، نواح النساء، لا أدوية، تمرّ أيام لا نجد فيها ربطة خبز… قذائف يومية علينا…». أم مفجوعة بخسارة فلذة كبدها، «الشمعة يلي كانت منوّرة حياتي». غير أنها لا تعاني من فقدان ابنتها فقط، فشقيقها مخطوف منذ عامين ولا تعرف عنه شيئاً. كذلك فإن الحصار منعها من رؤية أشقائها الآخرين الذين يعيشون في طرطوس. لكن «تهون مصيبتي عندما أرى مصيبة غيري». اليوم تشييع نجل جارتها، وغداً مجلس عزاء عن روح فقيد آخر. الشباب التحقوا جميعهم بالجيش للقتال، أما من تبقى منهم، «فنتمسك بهم لحمايتنا». «الله يكسر قلوبهم متل ما كسروا قلوب الامهات»، تقولها بغصة. وتتساءل: «ما ذنب الاطفال؟». لطالما كان أهالي المدينتين على علاقة أخوية مع جيرانهم في بلدات ريف حلب الشمالي الاخرى. لم يكن هناك فرق بين كردي أو سوري من مذهب آخر. لكن «دخول الجماعات المسلحة (جبهة النصرة ودولة الاسلام في العراق والشام) ساهم في ظهور النعرات الطائفية»، بحسب ما يقول الشيخ عبدالمطلب شمس الدين، وهو أحد وجهاء المدينتين. ويضيف: «اليوم كل شخص يقف الى جانب النظام هو عميل بالنسبة إلى الآخر ويعاقب».
يشرح شمس الدين واقع الحياة اليومية للاهالي. بسبب الحصار، «أكثر من 80 في المئة من الناس عاطلون من العمل، نحن نعتمد على المساعدات»، والنسبة المتبقية من الاهالي يتوجهون الى عفرين لجلب المواد الغذائية والثياب وبيعها في البلدتين، حسبما يقول.
ومع حلول فصل الشتاء، يرفع الشيخ شمس الدين الصوت عالياً. ففيما كان سعر برميل المازوت يبلغ 15 ألف ليرة العام الماضي، يباع هذه السنة بـ30 ألف ليرة. «هذه كارثة. لا أحد يستطيع دفع هذا المبلغ». يشير الى أن السكان كانوا يعتمدون على الحطب، لكن حتى هذه المواد الطبيعية لم تعد متوافرة بسبب استهلاكها من قبل الاهالي في السنة الماضية. يعيش أهل نبل والزهراء اليوم على أمل إيصال كميات من مادة المازوت، «وقد وُعدنا بذلك». وعلى رغم ذلك، يشدّد شمس الدين على «معنويات الناس العالية جداً»، مضيفاً «شعارنا مقاومة وهيهات منا الذلة… ولن نستسلم».
عماد (اسم مستعار)، أحد القاطنين في الزهراء، يخرج في نوبة حراسة ليلية يومية على ثغور البلدتين لحماية الاهالي من أي هجوم مسلّح. «أنا عايش والحمد لله، لكن الناس وضعهم سيّئ جداً. لذلك لا أهتم بنفسي. الكل هنا تأقلم مع فقدان الكهرباء، وعدم وجود الخبز أمر طبيعي. نتحمّل كل شيء في سبيل حماية أرضنا وعدم انتهاك أعراضنا»، يقول عماد، خريج التجارة والاقتصاد من جامعة حلب لـ«الأخبار».
لا يستطيع الطلاب مزاولة الدراسة سواء في الجامعات أو المدارس. تستهدف القذائف بشكل يومي السكان والمنازل. هناك نحو 500 شهيد، بينهم أكثر من 100 من الاطفال، بحسب أحد الناشطين. منذ يومين، غطّت السماء مظلات يرميها سلاح الجو السوري، تحمل مواد غذائية وأدوية. لم تعد المساعدات تصل بمروحيات تهبط في إحدى البلدتين، بعدما استهدف مسلحو المعارضة طائرة تنقل مدرّسين في وزارة التربية، تطوعوا للذهاب إلى نبل والزهراء للإشراف على الامتحانات الرسمية لطلاب البلدتين في حزيران الماضي. سقطت الطائرة فوق نبل، واستشهد كل من فيها.
وبعدما أطبق الحصار على البلدتين من كل الاتجاهات، ظهر المتنفس الوحيد من جهة البلدات التي تقطنها أكثرية كردية، في عفرين والقرى التابعة لها، شمالي غربي نبل والزهراء. من عفرين، تدخل البضائع والمواد الغذائية الى البلدتين. لكن في كل هجوم يشنّه عناصر المعارضة الذين يقودهم في المنطقة تنظيم «دولة الاسلام في العراق والشام» ضد الاكراد، يضيّق الخناق أكثر على المدينتين.
«على ما يبدو سنشهد شتاءً قارساً كما في الشتاء الماضي»، يقول عماد. ويكمل، «عندما حوصرنا حتى من الجانب الكردي، بقينا أكثر من عشرين يوماً من دون خبز. كنا نأكل البرغل كل يوم». وتبقى عبارة «القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة» شعاراً لا يفارق لسان عماد.
ضريبة المذهب: خطف وإعدام
فاق عدد المخطوفين من بلدتي نبل والزهراء المئتين بحسب أحد الناشطين الذي يوثّق الانتهاكات التي يتعرض لها الأهالي كل يوم. ومنذ حوالى شهرين، خطف باص يقوده تركي ينقل نساءً وأطفالاً من البلدتين على أبواب مدينة إدلب. دفعت الظروف السيئة هؤلاء الى المغادرة باتجاه الشام.
«أبو عبدو» الذي خطفت ابنة شقيقته وهي في انتظار مولود جديد، إضافة الى 6 نساء من أقربائه، يشكو في حديث إلى «الأخبار» مصير النساء والاطفال: «لا نعرف عنهم شيئاً ولا نعرف أين هم». ويضيف «شاهدنا مقطعاً صغيراً على الانترنت، ظهرت فيه النسوة والاطفال وهم في قلب مغارة… من الواضح أنهم يعيشون عيشة مأسوية».
الشيخ عبد المطلب، أحد الذين يهتمون بهذا الملف بالتنسيق مع محام من طرف الخاطفين، يقول لـ«الأخبار» إن قسماً من المخطوفين موجودون لدى «جبهة النصرة»، والقسم الاخر يتوزع على عدد من الجماعات المسلحة. لكن الأهالي بعد اليأس من المفاوضات وعدم معرفة مصير المخطوفين، خطفوا ثلاث حافلات في حمص تقلّ ركاباً من عائلات مقاتلين ينتمون إلى «جبهة النصرة». ويبلغ عددهم 70 شخصاً بين نساء ورجال وأطفال. ويقول شمس الدين: «نعاملهم أفضل معاملة… على عكس ما يتعاملون مع أهالينا المخطوفين». «الأمير عبدالله» في «النصرة» هو الذي يتسلم هذا الملف، والمفاوضات تأخرت «بسبب المعارك في حلب».
ومنذ أربعة أيام، أطلق الاهالي سراح 40 من المخطوفين «من باب حسن النية، لكن لم تتجاوب معنا الجهة الثانية على الاطلاق»، يقول شمس الدين، ويضيف «حتى إنهم لم يبدوا أي استعداد للتعاون». ولا يزال هناك 30 شخصاً من المخطوفين.
يتساءل شمس الدين عن سبب غياب التعاطف مع مخطوفي نبل والزهراء، خصوصاً أنهم من النساء والاطفال. ويقول: «نحن نتعرّض للظلم حتى من الاعلام… نحن نتعاطف مع أهالي معلولا. فرنسا استنكرت ما يجري هناك. لماذا لا يتعاطف العالم معنا؟».
لا يتعرّض أهالي نبّل والزهراء للخطف وللحصار فقط. فأحياناً يمكن أن يكون أحدهم ضحية إعدام علني. ففي آب الماضي، تباهى عناصر في تنظيم «الدولة الاسلامية» بإعدام طفلين من نبّل رمياً بالرصاص، وبثوا شريط الاعدام على موقع «يوتيوب». كل شخص مرشّح لأن يكون فريسة، إما خطف أو إعدام أو ضحية قذيفة هاون.
35/5/131213
https://telegram.me/buratha