محمد نور الدين
أكثر من 90 رئيساً من كــــل العــــالم شاركوا في جنازة المناضل نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا. قطع البعض آلاف الكيلومــــترات وعبروا المحيطــــات ليشاركــــوا في تأبين زعيم، قد لا يلتقون معه في السياسة، ولكنهم لم يستطيعوا إلا التعبير عن احترامهم له ولسيرته.
قلة من زعماء العالم لم يشاركوا، من بينهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي بالتأكيد لن يجد قاسماً مشتركاً واحداً مع مانديلا الذي حارب نظام الفصل العنصري الذي تعتبر اسرائيل الآن ربيبته بلا منازع.
لكن كم كان مثيراً ولافتاً ألا يشارك أيضاً في التأبين الرئيس التركي عبدالله غول ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، وحتى وزير الخارجية احمد داود اوغلو. واكتفت تركيا بتمثيلها عبر نائب رئيس الحكومة بشير أتالاي.
المشاركة لا شك كانت ضعيفة، خصوصاً أن أتالاي ليس شخصية معروفة خارج تركيا، وكان يمكن أن يحل بدلا منه داود اوغلو كوزير للخارجية. ولكن حتى داود اوغلو لم يكن ليغطي فراغ عدم مشاركة غول أو أردوغان.
مانديلا كان رئيساً لجنوب افريقيا، وهنا كان على غول أن يكون ممثلاً لتركيا في التشييع. ولكن أيضا في مثل هذه المناسبات العالمية، وفي ظل عدم مشاركة غول كرئيس للجمهورية، فإن الأنظار تتجه الى رئيس الحكومة أردوغان، وهو الرجل الأول في تركيا من حيث الصلاحيات والأكثر بروزا خارجيا.
لم يكن هناك من سبـــــب داخلي يعوق ذهاب أردوغــــان الى جنوب افــــريقيا، لا العاصفة الثلجية التي وصلـــت الى تركيا قبل لبــــنان، ولا مباراة «غلطة سراي» مع فريق «جوفنتوس» في بطـــــولة الأندية الأوروبيــــة، والتي لا يفوت أردوغان حضور مبارياتها كلما سنحت لـــــه الفرصة. ولكن إذا تمعنا جيدا في ما يمكن أن يكون سببا لعدم ذهاب أردوغان أو غــــول أو أي مسؤول آخر رفيــــع المســـــتوى الى جنازة مانديلا لربما توقفنا عند ما يلي:
1ـــ مع ان مانديلا شخصية عالمية وإنسانية ونضالية يجمع عليها الجميع، فإن صورة مانديلا هذه ليست بهذا القدر داخل تركيا، ولا سيما لدى الطبقة السياسية الحاكمة. ومنشأ هذا أن تركيا منحت في العام 1992 «جائزة اتاتورك للسلام» الى مانديلا تقديراً لنضاله ضد الاستعمار. ولكن مانديلا رفض الجائزة، احتجاجاً على التمييز العنصري ضد الأكراد في تركيا واضطهادهم، في إشارة ضمنية الى أن ما يطبق ضد الأكراد في تركيا شبيه بما كان يمارسه البيض في جنوب افريقيا ضد السود من تمييز عنصري. وبالتأكيد موقف مانديلا كان رسالة نقدية شديدة ضد القوميين الأتراك ونزعتهم العنصرية ضد الشعب الكردي في البلاد. لم يغفر القوميون لمانديلا هذا الموقف. والقوميون لا يقتصرون على حزب دون آخر، وهم ينكرون وجود هوية كردية في تركيا.
2- جاءت وفاة مانديلا في لحظة تراجع رهيب للدور التركي في المنطقة والعالم. وكم كان هذا الشعور بالخيبة والهزيمة مطبقاً على صانعي السياسة الخارجية التركية لدرجة أنهم لم يشعروا بضرورة المشاركة في حدث عالمي يعكس الأبعاد الإنسانية والخارجية للدول القيادية والصغيرة على حد سواء. كما تعكس عدم المشاركة الرفيعة بجنازة مانديلا التخبط الذي تمر به السياسة الخارجية التركية في ظل انهيار تأثير أنقرة وحضورها في الملفات الاقليمية والدولية.
3- لقد راجت في السنة الأخيرة في دوائر صناعة القرار في تركيا مقولة ان السياسة الخارجية التركية تقوم على معيار «المبادئ» الأخلاقية التي تساند الشعوب ضد الأنظمة، والديموقراطيين ضد الاستبداد، والمدنيين ضد الانقلابيين العسكريين.
واعتبرت تركيا أن سياستها تجاه سوريا ومصر وتونس، من المطالبة بإسقاط الرئيس بشار الأسد إلى الدعوة لمقاومة حكم الفريق أول عبد الفتاح السيسي في مصر، ودفاعها عن «حركة النهضة» في تونس، تأتي في سياق هذه المبادئ.
علماً ان مثل هذه المقولة تعكس ازدواجية معايير تركية لجهة الدفاع عن أنظمة مستبدة وفاسدة في أكثر من مكان في المنطقة العربية والقوقاز وآسيا الوسطى وامتناعها عن دعم شعوب مظلومة في أكثر من بلد.
إن عدم مشاركة أردوغان أو غول في جنازة مانديلا لا ينسجم مع شعار «المبدئية الأخلاقية» في السياسة الخارجية. فإذا لم يكن مانديلا هو الرمز الأكبر للأخلاق والإنسانية في السياسة الدولية، فمن الذي يمكن ان يكون رمزاً لمثل هذه المبادئ؟
لقد أخطأ أردوغان وغول وداود اوغلو في عدم المشاركة المباشرة في جنازة مانديلا. وهو خطأ يضاف الى سلسلة الأخطاء المتكررة في السياسة الخارجية، والتي باتت «طبيعية»، كما بات من الطبيعي أكثر ومن الضروري أكثر البحث عن سفينة جديدة وعقيدة قيمية جديدة وربان جدد ينتشلون تركيا من مآزقها الاستراتيجية العميقة.
السفير
28/5/131212
https://telegram.me/buratha