علاء حلبي
على الرغم من فظاعة التسجيل المصور الذي انتشر في الآونة الأخيرة والذي يظهر أحد مسلحي المعارضة في محافظة حمص وهو يلوك قلب جندي في «الجيش العربي السوري»، إلا أنه لم يكن الحادث الوحشي الأول من نوعه. سبقته عشرات التسجيلات المصورة التي تظهر جرائم الذبح، والتقطيع، والتنكيل بالجثث، والتي بدأت منذ أكثر من عامين. كان أبرزها ذلك التسجيل الذي ظهر في محافظة دير الزور في بداية الأحداث في سوريا، والذي يظهر مجموعة من المسلحين تقوم بتقطيع جثة عنصر أمن، إضافة إلى حوادث جرى تصويرها في جسر الشغور، وحماه، وريف دمشق وحلب وغيرها من المناطق السورية.
منذ الرصاصة الأولى، ظهرت وبشكلٍ متنامٍ عمليات الذبح والتنكيل بالجثث، الأمر الذي أظهر المجتمع السوري على أنه مجتمع يضج بالدموية والوحشية.
لا تخفي الاختصاصية في علم الاجتماع الجنائي هناء برقاوي صدمتها مما يحدث في سوريا، وتعترف بأنها وعلى الرغم من أن اختصاصها يدفعها لمشاهدة ومتابعة جرائم قد تكون وحشية، إلا أنها لم تستطع في كثير من الأحيان متابعة التسجيلات المصورة لبعض الجرائم.
وتشرح قائلة: «كنا نقرأ عن هذا النوع من الجرائم في الصحف والمجلات الأميركية. كانت تقع في مجتمعات مفككة يغيب عنها دور الأسرة، والقيم المجتمعية، والأخلاقية وحتى الدينية»، مضيفة: «لم أكن أتوقع وقوع هذا النوع من الجرائم في سوريا، لم تكن تظهر في المجتمع السوري أية عوارض للسايكوباتية (اضطراب شخصية، محورها الأساس انتهاك حقوق). إنّ معظم الجرائم التي شهدتها سوريا خلال السنوات العشر الأخيرة، وبحسب دراسات عديدة، تؤكد أن جرائم القتل هي أقل أنواع الجرائم التي تقع في البلاد، كما أنها كانت تخلو من التمثيل بالجثث، باستثناء حالات نادرة جداً».
تستشهد الاختصاصية برسالة الماجستير التي أعدتها العام 1995، والتي تَطَلَّب إعدادُها إجراءَ مقابلاتٍ مع نحو نصف نزلاء سجن دمشق المركزي حينها. وتشرح قائلةً: «أظهرت المقابلات أن حالة واحدة فقط يشتبه بأنها سايكوباتية (وهي لموقوف أقدم على قتل زوجته ووالدتها) وهذه النسبة ضئيلة جداً، وتتوافق مع الدراسات التي تؤكد أن المجتمع السوري مجتمع رقيق».
وتضيف: «أما الآن، فإن جرائم القتل تتصدر القائمة، ويضاف إليها السرقة والخطف، كما أن بعض الجرائم لا تتوقف عند حدود القتل، وإنما تتجاوزها إلى التمثيل والتنكيل بالجثث».
وتحمّل برقاوي مسؤولية تفشي هذه الظواهر للمقاتلين الذين توافدوا إلى سوريا بداعي «الجهاد»، موضحة أن هؤلاء جلبوا معهم أمراضاً اجتماعية لم تكن موجودة في سوريا، كما أن ارتكاباتهم أثارت كثيراً من السوريين، خصوصاً المراهقين، الذين اندفعوا لتقليدهم، سواء بداعي التقليد فقط، أو حتى لأسباب أخرى تعود لأمراض كانت القيم المجتمعية تضبط سلوكياتها، وحرّرها هؤلاء، بعد إزالة الضوابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية، إذ إنّ المراهق بطبيعته عجينة طيّعة وينساق بسهولة. وترى أنه «قبل مجيء هؤلاء، لم نلاحظ وجود هذا النوع من الجرائم الوحشية، أما الآن فقد انساق كثيرون وراءهم، ومعظمهم من المراهقين».
من جانبه، يرى الطبيب النفسي تيسير حسون أن الدافع لهذه الجرائم هو «الشبق» أو ما يعرف بالـ «الليبيدو»، وهو طاقة جنسية غير محددة يتم التعبير عنها بالموت الرهيب. ويقول إنّه «لدى الإنسان الطبيعي، يجد الليبيدو مخرجا وتعبيرا أكثر قبولا واحتمالا، من خلال التسامي الخلاق، كالفن مثلا». ويتابع: «يعتبر التحليل النفسي أن أكل لحوم البشر، سويا مع سفاح المحارم، هما غريزة. أكل لحوم البشر الذي يتضمن دوما تشويه الجثة، له صلة مباشرة بالليبيدو. كما أن المحرمات الجنسية تتطور بالضبط حول أقوى رغبات التدمير الذاتي»، موضحاً أن «الحضارة تعيد توجيه هذه الرغبات الفظيعة».
يشرح الطبيب النفسي أنه «في الحروب المعقدة، كالحرب في سوريا التي يتداخل فيها العامل الداخلي مع الخارجي مع السياسي والديني والطائفي، ومع تفكك البنية المجتمعية، يجري إخراج كل المكبوت الفردي والتاريخي على نحو غير مسبوق». ويستطرد قائلاً إنه «من المعروف أن اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (السايكوباتية) موجود في كل المجتمعات، لكن هذه الشخصية تُردع بقوة القانون والعقاب، وتزدهر هذه الشخصية حين تغيب سلطة القانون».
من خصائص «الشخصية السايكوباتية» غياب الشعور بتأنيب الضمير وغياب التعاطف مع الآخرين، وعدم الارتداع من عواقب الفعل المعادي للمجتمع. ولدى هذه الشخصية ميل تدميري عبر انتهاك القانون وحقوق الآخرين. كل شيء مباح أمام السايكوباتي من أجل الوصول إلى غاياته، بدءا من الكذب والاحتيال، وصولا إلى القتل بدم بارد. وعادة، يظهر السايكوباتي بمظهر طبيعي، قد يكون محبوباً بين الناس، ولا يمكن تمييزه بسهولة، إلا أنّ سلوكياته العدوانية وحدها تكشفه في مواقف محددة، غالباً ينجم عنها جرائم وحشية.
أخصائي نفسي آخر، فضّل عدم الكشف عن اسمه، يرى أن «الوهابية» أطلقت العنان لـ«الليبيدو»، لافتاً إلى أن «معظم الفتاوى الوهابية لا تخرج عن موضوعين مركزيين: الجنس والقتل! ومن يكرس نفسه لموضوعين فقط، سيتفنن في ابتداع طرق شتى لتحقيق هاتين الغريزتين».
ويتابع انه «تحت عنوان الفتوى، تُطلق أعمق الغرائز بدائية، وتزول كل المثبطات الحضارية التي راكمها البشر عبر تاريخهم»، مستطرداً بالقول إنّ «المشكلة في الوهابية هي أنها تطلق الليبيدو بربطه بالمقدس. أي أن الغرائز الجنسية والعنفية، هي المعبر للوصول إلى الجنة!». ويضيف ان «غياب الرادع العقابي (وليس الأخلاقي) مع وجود حافز ديني، يدفع بالسايكوباتي لممارسة أقصى درجات العنف، وهنا يكتسي الفعل السايكوباتي غطاء شرعياً يؤمن له الحياة الآخرة، فضلا عن تأمينه للحياة الدنيا بنفسه».
ولا يكاد يخلو تسجيل مصوّر لعملية تنكيل بجثة، أو ذبح، أو قتل وحشي، من وجود مجموعة أشخاص يحيطون بمرتكب الفعل يهللون له، ويطلقون الأهازيج، معبرين عن سعادتهم بارتكاباته، مطلقين عبارات تمجيد وشكر وامتنان لله، على نحو «الله أكبر»، الأمر الذي يربط هذه السلوكيات بحالة من القدسية الدينية التي تغذيها بعض الفتاوى المتشددة وتنميها، كما تؤمن لها غطاء يضمن استمرارها وانتشارها في المجتمع.
ولا تتوقف الأمراض النفسية والاجتماعية عند حدود مرتكب الفعل الجرمي، أو الشريك فيه، أو حتى الضحية فحسب، بل تتعدى هؤلاء لتصبح حالة قد تكون عامة، فالأمراض النفسية تفشت على نحو غير مسبوق في سوريا.
بدوره، يؤكد تيسير حسون أنّ المجتمع السوري بات يعاني من أمراض نفسية عديدة، ويقول إنه «يمكن القول نظرياً إن جميع الاضطرابات النفسية الكبرى، تزداد بنسب مختلفة». ويوضح أنّ «الأزمات تؤدي إلى عواقب نفسية اجتماعية يظهر بعضها على المدى القصير، وبعضها الآخر على المدى الطويل، فكيف الحال مع أزمة بشمولية وعمق الأزمة السورية، التي لامست، بشكل أو بآخر، سائر شرائح المجتمع السوري من مراكز المدن إلى أقصى الريف؟».
ويضيف المتخصص قائلا: «شاهدت بعض الحالات التي تعرضت للخطف والاغتصاب. كانت الحالات متشابهة تقريبا في ردود فعلها، حيث وجدت الرغبة في الانتحار، والاكتئاب الشديد، والإحساس بالتهديد الدائم وما يمكن تسميته الشلل النفسي، واليأس وانعدام الثقة بأي شخص وخاصة الذكور، والاستعادة الدائمة للحدث والكوابيس المفزعة»، مشيراً إلى أنّ «الأسوأ من الناحية النفسية هم الناجون من الخطف. وجدت تشابها بين حالات الخطف وحالات الاغتصاب من الناحية النفسية، خاصة أن بعض المخطوفين تعرضوا للاغتصاب أيضاً، رغم أن أغلب الناجين لم يفصحوا صراحة عن تعرضهم للاغتصاب، بل عبروا عن ذلك بشكل موارب بسرد أحداث وتفاصيل جرت لأشخاص آخرين كانوا معهم».
نجد ارتفاعاً في حالات القلق، خاصة الهلع واضطراب الشدة بعد الرض، وهما اضطراب يأتي كنتيجة للتعرض إلى صدمات نفسية شديدة وأهوال. كما نجد ازديادا في حالات النكس لدى المكتئبين الذين كانوا في وضع مستقر، وكذلك الحال بالنسبة لمرضى الوسواس القهري. كلها، اضطرابات نفسية، يقول حسون إن المجتمع السوري بات يعاني منها، إضافة إلى المشكلات المتمثلة بحالات اضطرابات النوم والشهية، والشكاوى الجنسية وخاصة غياب الرغبة الجنسية لدى الجنسين.
الأطفال أيضاً لم يسلموا، فنجد حالات العدوانية وسلس البول وقلق الانفصال والانعزال واضطرابات النوم والأكل والتمرد على الأبوين والعناد والخوف من الظلام وتراجع التحصيل الدراسي. كما نجد ذلك النزق الذي يسم سلوكهم بتعاطيهم مع زملائهم ومعلميهم وآبائهم، ويقول الطبيب النفسي إن «ثمة أطفالاً عادوا إلى سلوكيات نكوصية، كالخوف من الغرباء وقضم الأظافر والتعلق الشديد بأهاليهم، خاصة التعلق بالأم، والتأتأة في الكلام، في حين لجأ بعضهم إلى الصمت»!
وفي هذا السياق، ترى الأخصائية هناء برقاوي أن المجتمع السوري سيكون بحاجة ماسة إلى جهد نفسي واجتماعي كبير عقب انتهاء الأزمة، موضحة أنه «يجب أن تتم دراسة آثار هذه الأحداث، ومتابعة الحالات المرضية». وتتابع انّ «معظم المتورطين ليسوا سايكوباتيين، ويمكن تأهيلهم. الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون يجب أن ينشطوا بشكل كبير لمعالجة ما خلفته هذه الأحداث من مصائب»، خاتمة بالقول إنّ «المجتمع السوري رقيق ولكنهم شوهوه».
30|5|13523
https://telegram.me/buratha