المقالات

تولّي مسؤولية المجتمع..النموذج الثاني..


كوثر العزاوي ||

 

يواصل الله"عزوجل" بيانه لنماذج الناس عبر الآيات المباركات من سورة البقرة مبيّنًا النموذج الثاني، في قوله تعالى:

{وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}

وبعد أن ذكر المفسرون انّ المراد بالحرث في الآية الآنفة الذكر:

{ويُهلِك الحرثَ والنَّسْل..} هو "الدِّين"، والنسل هو "الإنسان" باعتبار أنَّ الله زرع الدِّين في نظام الإنسان في الحياة، تمامًا كما هو الزرع في نظام الأرض، إذ اتضح من ذلك الأثر السلبي الذي جعل من  النموذج الأول الذي ذكرته الآيات ومَن يتولى المسؤوليات العامة في المجتمع وهو المنافق، أنه مشكلة للنّاس في منع انطلاقة الدِّين في خطّ الاستقامة الذي يؤدي إلى الصلاح، وهو مايعني هلاك الحرث الاجتماعي في نظام الحياة، لأنَّ الطغاة المنافقين الذين يتولَّون أمور الأمّة يعملون على إبادة حضارتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، بحيث لا تبقى هناك أية قوّة، ولا أية ثروة لأية جماعة؛ فكأنه يهلك الحرث والنسل، لأنه يهلك الواقع السليم كلّه، وهذه عبارة تتكرر في الأساليب الأدبية في مقام التعبير عن الإنسان الذي يخرّب الواقع كلّه،

لذا بيّن الله سبحانه صورة أخرى في نفس الآية المباركة لنموذج آخر يشرق في داخل الحياة وخارجها، يتمثّل بالإنسان الذي شرى نفسه للهِ وَباعها من أجل الحصول على رضاه

{وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله..} الأمر الذي يجعلنا ندرك أنّ هذا النموذج لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيدًا عن إرادة الله وطاعته إنما كلّه لله "عزوجل" ولذلك فهو يعيش الإحساس بأنَّ عليه أن يبذل كلّ ماوَهبهُ خالقه من الطاقات الفكرية والروحية والجسدية في سبيل الله، فلا مجال للترف الفكري في أجواء تتحرّك فيها التحدّيات الفكرية ضدّ الفكر الحقّ، ولا موقع للخيال أو التوهّم أمام حاجة المجتمع إلى التعامل مع الظروف الموضوعية المطروحة في الساحة، كما لا وَقت للفراغ في المجالات التي يدّعي فيها الإنسان استعداده للذوبان في القضايا الأساسية الحيّة في واقع الإنسان والحياة! وهكذا تنطلق حياة ذلك الصنف المتفاني لتتحرّك من موقع الحقّ في أكثر من اتجاه ضدّ جبهة الباطل التي توجبُ التحدّي في أكثر مجالٍ من مجالات الحياة،

إنه الإنموذج الرساليّ الذين يعيش رسالته في كلّ مظهر لحركة الحياة من حوله، ويعيش حياته من أجل رسالته في الخطّ المستقيم؛ فلا يميل ولا ينحرف أمام كلّ محاولات الإغراء، ولا يستسلم لكلّ عوامل الضغط والإغواء، بل يثبت في الموقع الصلب، في ساحات التحدّي الصعب، ليُشهد اللهَ على أنه صدقَ بالعهد وأكدّ الميثاق بجهاده وتضحياته في سبيل الله، ولم تأخذه فيه لومة لائم بحجم الهدف الذي تبنَّى

{وَاللهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ}: فهو الذي يتقبل من تلك النفوس المجاهِدة لرغباتها وشهواتها وهي تستعد للفناء وتستقبل الموت بكلّ رضى وسكينة، انطلاقًا من خطّ الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة، والله يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل، ولعل خير مصداق تجسِّد في قوله تعالى: هو الوقوف على شخصية الإمام عليّ بن أبي طالب "عليه السلام" فهو القدوة والأسوة ومَن نزلت به هذه الآية المباركة التي لم تركّز بالصريح على شخصيتة"عليه السلام" بل أطلقت التعبير ب{وَمِنَ النّاس..} لأنَّ الله تعالى -كما ذكر المفسرون- يريد للفكرة أن تبيّن ملامح الشخصية النموذج، ليكون عامًا في حياة النّاس، وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج الأسوء الذي لا يفكر إلاَّ بذاته وشخصه ومصالحه، إذ لايختلف عاقلَين على ما يمثّله هذا الإمام العظيم "عليّ عليه السلام" من طاقات استثنائية ومَلَكاتٍ خارقة في الفكر والتقوى والشجاعة والطهارة والعدل والإيمان، حيث فجّرها بأجمعها في خدمة الإسلام والمسلمين وأوقَفها خالصة للهِ "عزوجل"بعيدًا عن كلّ مصلحة ذاتية، حتى قال: "ما ترك الحقّ لي من صديق"ولم يبدد أيّ واحدة منها في الترف أو الفراغ أو خدمة الذات.

ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين، ليشعر الإنسان بأنَّ للحياة أكثر من وجه وأنَّ ظاهر الصورة قد لا يعبّر عن واقعها في كثير من الحالات.

 

 

٢٤ربيع الثاني١٤٤٤هج

٢٠-١١-٢٠٢٢م

 

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك