وعندما رمت أن أرفع عيناي الى عينيه، خانتني حدقتاي، رفضت ان تلتقي نطراتها الى نور وجهه الوضاء، لأن نور كريمته أعياني، ولأن بريق عينيه كان أحدّ لمعانا من أن تتحمله عيناي. تسمّرت في مكاني لا أبدي حراكا، غير أن آذان قلبي انفتحت أبوابها على مصراعيها لتستمع الى ذلك الصوت الهادر، الصوت الذي انسلّ الى هذه النفس المحبوسة بين دفتي الترقب ليضع عنها أغلال الطاغوت والشيطان، لينبأها بأن الجنة تحت ظلال السيوف وان لكل شيء سناما وان سنام الاسلام الجهاد. ( بقلم نضير الخزرجي )
الذكرى كأي ذكرى، حلوها او مرها، بلسمها او علقمها، تبقى عالقة بأهداب الماضي، تدغدغ ذؤاباتها راحة الحاضر، كلما تذكرها صاحبها أجمرت في حناياه أوار الماضي المندك بالحاضر والمندلع اللسان على المستقبل.
في ذكرى اعدام المفكر والفقيه السيد محمد باقر الصدر (1931-1980) وتحت عنوان (في الذكرى نجتر الألم والأمل ونقسم ان نبقى على الدرب)، كتبت في مجلة الشهيد، متحدثا عن اول لقاء لي مع الشهيد الصدر: "لم اكن قد رأيته من قبل الا عبر الصور، هذه المرة كانت مباشرة، لقد جمعتني معه حبل الثورة الواصل بين الرمز الثوري الاسلامي والجماهير المستضعفة التواقة الى الانعتاق من ربقة الجبروت والطغيان. لقد كان من حسن حظي ان تكون عيناني لا ترى امامها الا ذلك الوجه النوراني الذي تخللته بعض القسمات والاخاديد التي تحكي عن عظم المسؤولية وعن كبر الآلآم التي رضي ان يحملها هذه السيد الجليل خدمة في سبيل شعبه، انه الشهيد السعيد المرجع آية الله السيد محمد باقر الصدر.
فعندما دخل الضيوف غرفته المتواضعة أبيت الا ان أتخذ موضعا للجلوس يكون مقابلا له، لم أكن ادري ما السبب، لكن شيئا ما كان يساورني، ويجرني نحو هذا السيد العالم، جلست امامه غير ان حالة اخرى راحت تغشاني، فقد كانت عيناي قد انفلتت من عقالها وراحت تهمر دموعها، ولم اكن اعلم لماذا ابكي، هل لان القدر سيحمل هذا السيد بعد فترة قصيرة الى ربه شهيدا، ربما ذلك، وربما هي دموع الولاء.
وعندما رمت أن أرفع عيناي الى عينيه، خانتني حدقتاي، رفضت ان تلتقي نطراتها الى نور وجهه الوضاء، لأن نور كريمته أعياني، ولأن بريق عينيه كان أحدّ لمعانا من أن تتحمله عيناي. تسمّرت في مكاني لا أبدي حراكا، غير أن آذان قلبي انفتحت أبوابها على مصراعيها لتستمع الى ذلك الصوت الهادر، الصوت الذي انسلّ الى هذه النفس المحبوسة بين دفتي الترقب ليضع عنها أغلال الطاغوت والشيطان، لينبأها بأن الجنة تحت ظلال السيوف وان لكل شيء سناما وان سنام الاسلام الجهاد.
ما أروعها من كلمات خرجت من فم كريم، انها الكلمات التي امتزجت لعابها بدماء الحسين لتنبعث حمراء قانية تبشر بأن الساعة حانت وأذنت للثورة على الظلم والطغيان، الثورة على نظام حزب البعث الحاكم في بغداد.
كلمات الشهيد السعيد كانت تخبرنا عن استشهاده، عن دنو الساعة التي تخضب فيها كريمته التي أبى الطاغوت الا ان يراها حمراء امعانا في تهكمه على الحرمات والمقدسات.. قال الشهيد السعيد السيد الصدر في الجموع الحاضرة، ان: "كربلاء هي وطني" و"ان دماء الحسين الشهيد الذي سقط في كربلاء تجري في عروقي".
جاء مقالي هذا في الصفحة 58 من العدد (123) في مجلة الشهيد الصادر في طهران في (18/4/1984م)، التي عملت فيها محررا ثم مديرا لتحريرها حتى العام 1989م، متحدثا عن رحلة ولاء قام بها جمع من اهالي مدينة كربلاء المقدسة الى مدينة النجف الاشرف في (7/6/1979م)، وحينها كان الوفد بعد ان وصلنا الزقاق الذي يسكن فيه الفقيد الصدر، يردد بحناجر شدها الشوق الى مدينة الامام علي (ع)، ورؤية ابنها البار السيد محمد باقر الصدر: (جيناك سيدنا الصدر ونريد من الله النصر لو الشهادة). وبعد ان استقر المقام بالوفد الكربلائي بين جالس وواقف لصغر الحجرة وتواضعها، انبرى التربوي والمعلم السيد صادق آل طعمة، ملقيا كلمة قصيرة نيابة عن وفد اهالي كربلاء المقدسة، معبرا عن تضامن المدينة المقدسة مع سماحة الشهيد الصدر في محنته مع نظام صدام حسين.
وبعد ان انهى السيد صادق آل طعمة كلمته، ادار الشهيد السيد محمد باقر الصدر عينيه في عيون الحاضرين، وقال والدمعة ترقص في حدقتيه: "ارحب بكم يا أبنائي واخوتي وعشيرتي، اني اشم فيكم رائحة تراب كربلاء"، حتى اجهش الحاضرون بالبكاء، ثم ختم كلمته قائلا: "أضمكم الى قلبي يا أبناء مدينة الحسين، مدينة حَوَت تلك الدماء الطاهرة التي أراد السلطان ان يستميلها بالمال والجاه فأبت لأنها رأت مسألة الحق اكبر من ذلك..دماء مَن؟ انها دماء أقدس انسان على وجه الأرض .. اني اغبطكم يا أبنائي على مجاورتكم لقبر ريحانة رسول الله، فالانسان حينما يمسك تفاحة يبقى شذاها في يده، فكيف وأنتم أقرب الناس الى قبر الحسين بن فاطمة؟ اني أشم منكم رائحة الحسين. كربلاء الصغيرة بحجمها الا انها كبيرة بعطائها، فحدودها العقائدية كبيرة تمتد مع حدود الانسان الرسالي، ما من أنسان تكلم عن الانسانية الا وكانت كربلاء في ضميره، واعاهدكم أحبتي انني سأحذو حذو جدي الحسين".
وما ان ختم الفقيد السعيد كلمته حتى تعالت الهتافات: (عاش عاش الصدر .. الاسلام دوما منتصر)، وغيرها من الهتافات. وللمزيد، انظر: كتاب (محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره، ص652، الصادر عن مؤسسة دار الاسلام في لندن)
هذه الحادثة، تعيد بشريط الذاكرة، الى الوفد الكربلائي الذي انطلق من امام جامع بن عوز في منطقة عقد السادة في كربلاء المقدسة، وهو يضم لفيفا من اهالي المدينة المقدسة من اطياف مختلفة، فمنهم من كان ينتمي لحزب الدعوة الاسلامية ومنهم من كان ينتمي لمنظمة العمل الاسلامي، وكان منهم المستقل، جمع الكل، احساس بالمسؤولية للدفاع عن السيد الصدر الذي حاصره القريب والبعيد، وهو دفاع عن الذات العراقية.
وعدد غير قليل من هؤلاء اعدمهم نظام صدام، كالشهيد السيد صادق آل طعمة وفيما بعد ابنه السيد ضياء صادق آل طعمة، والشهيد السيد منذر بن السيد حمد الشامي، والاخير جمعنى معه المعتقل في مديرية امن كربلاء بعد اشهر من هذه الواقعة، وكان المحقق الذي يستجوبه في الغرفة العليا في مديرية الأمن، يسأله عن رفاقه الذين كانوا معه في الوفد الكربلائي الذاهب الى لقاء الشهيد الصدر في النجف الأشرف!!، وقد عشت جانبا من التحقيق بنفسي، لان من عادة رجال الأمن في هذه المديرية، التحقيق في قضايا عدة، في جلسة استجواب وتعذيب واحدة، واتذكر ان الخطيب الحسيني السيد احمد النواب المقيم حاليا في لندن، كان ملقى على الارض، مغشيا عليه، يعذب في قضية مختلفة عن قضيتي وقضية السيد منذر الشامي.
ولمن لا يعرف، فان اللقاء الكربلائي النجفي، يعيد بعجلة الذاكرة، الى القيادي في منظمة العمل الاسلامي، الفقيد فلاح القباني، الذي كان يواظب اثناء ترؤسه للجلسات التنظيمية، المقامة بين مزارع كربلاء وبساتينها، على فرز نصف ساعة لتقديم دروس في علم الاقتصاد من كتاب (اقتصادنا) للشهيد السيد الصدر، ويطالب رفاقه بقراءة رائعتي الصدر (اقتصادنا) و(فلسفتنا).
وتعيد بي الواقعة، الى فتى كربلاء المقدسة، وابنها المناضل، الحركي والمربي الفاضل، الشهيد مهدي كاظم الدوركي، الذي كان يدفع رفاق دربه من مدرسة الشيرازي، الى حب الآخر حتى وان اختلفنا معه في المدرسة الحزبية او المرجعية.
تعود الذاكرة وتعود، والثابت من واقع الحال آنذاك، ان وفود الولاء التي تحركت من محافظات العراق واقضيته الى زيارة الشهيد الصدر، قبيل فرض الاقامة الجبرية عليه في شهر رجب 1399هجرية، جمعت المختلف من المدارس الحزبية والمرجعية، على حب العراق وحب الآخر.
نضير الخزرجي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
إعلامي وباحث عراقيhttps://telegram.me/buratha