رياض البغدادي ||
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿31﴾ النور
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ﴾ هو خطاب موجه لعموم المسلمين وقد تكلمنا عن ذلك في بيان النفحة القرآنية في الآية السابقة فراجع لطفًا.قوله تعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ قيل إن المراد بالزينة هو ماتتزيّن به النساء من الخضاب والكحل وغيره، وكذا الحليّ التي تلبسها المرأة من قلائد وأقراط وما شابه ذلك، وقيل يُلحق بالزينة الخلقة، والظاهر إن العرب رجالاً ونساءً، كانت لهم زينتهم، منها ماهو مشترك بين الرجال والنساء كالكحل والقلائد والخواتم والأساور وغيرها، ومنها ماهو من مختصات النساء من الزينة، فالأمر الموجه في الآية يستفاد منه إخفاء الزينة التي تختص بها النساء لا عموم الزينة، وإلا لكان القرآن قد أمر الرجال أيضاً بإخفاء زينتهم، فالمحذور من الزينة واحد.
قوله تعالى ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ يراد به ما ظهر من زينة معتادة، لا تثير شيئًا عند النظر إليها كالخاتم والأساور والكحل، ولا يمكن إخفاؤها تبعاً لترخيص إظهار الوجه والكفين، اللذيْن أجمعت الأمة على جواز إظهارهما.
قوله تعالى ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ وهو وجوب ضرب الخمار لتغطية ما ينكشف من جيوب النساء، حيث لم تكن نساء الجاهلية تستر الرقبة وما يليها من الصدر.
قيل إن "الخمار المشار اليه فى سورة النور ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ لا يعنى مطلقاً تغطية الرأس والشعر للمرأة، إنما يعنى فقط تغطية الجيب وهو الصدر". وجوابه لمن فَقِهَ العربية أمور:
أولاًـ إن الخمار في كلام العرب هو غطاء الرأس، ولم يقترح القرآن على العرب أن يسمّوا ما يغطّي الجيبَ خماراً.
ثانياً ـ إن الله تعالى أخبرنا عن وجود خمار في القضية.
ثالثاً ـ إن كلام الله تعالى لم يكتفِ بمجرد الإخبار، بل أقرَّ وجودَه.
رابعاً ـ إن الآية لم تكتفِ بالإخبار عن وجوده وإقراره، بل أوجبت على المؤمنات أن يَزِدْنَ في طوله، ليشمل تغطية الصدر والرقبة.
قوله تعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ هو أمر في منع ظهور الزينة المختصة بالنساء، والتي وجب سترها عن نظر الأجانب.
قوله تعالى ﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ هذه الأصناف التي ذكرتهم الآية، يشتركون في صفة القربى، التي تمنع المحذور من إبداء الزينة، وهو الوقوع في الزنا والعياذ بالله، نعم لا ننكر وجود زنا المحارم، لكنه في المجتمع يُعَدُّ من الشذوذ الذي يندر وجوده، وتنبذه الفطرة السليمة، بل هو مكروه حتى في المجتمعات الغربية، التي شاع فيها الفساد، إضافة الى ذلك فإن الآية تريد أن تعالج الحالَ العامّة، وإلا فهناك مفاسد بين النساء أنفسهن يُعَدُّ من الشذوذ، كالسحاق، الذي للزينة دورٌ كبيرٌ في تشجيع الوقوع فيه، ومع ذلك لم يدَّعِ أحدٌ وجوبَ سترِ المرأةِ زينتَها عن النساء.
وأما قوله تعالى ﴿التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾ التابعين هم دائمو الحضورعند المرأة، كالخدم والعبيد وغيرهم، فالآية المباركة أذنت للمرأة أن تظهر زينتها أمام الحمقى منهم وكبار السن وغيرهم، ممن لا حاجة فعلية لهم في النساء، ويظهر ذلك من خلال الفحص والتجربة والمراقبة، وَرَدَ عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾ قال " أي أُولي الحاجة الى النساء، والإربة العقل وجودة الرأي". وروى الشيخ الطوسي في (التهذيب) عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن أولي الإربة من الرجال، قال: " هو الأحمق الذي لا يأتي النساء". ويَحْسُنُ أنْ نُنَبِّهَ على أنَّ الآيةَ شملت غير ذوي الإربة من الرجال التابعين، وليس مطلق الرجال.
قوله تعالى ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ مطلق الأطفال الذين لم يعوا ويفطنوا لعورات النساء، ولم يدروا ما هي بسبب صغرهم.
قوله تعالى ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ إن الممنوع إظاهره من الزينة أوسع من مجرد النظر إليه خاصة، بل يشمل كل وسائل العلم به للغرباء، بالنظر والسمع وغيره، فالعلم، لا تقتصر الإحاطة به على النظر، بل يشمل حتى النقل والإخبار، فلفظ ﴿لِيُعْلَمَ﴾ فيه إشارة خفية الى وجوب ستر المرأة زينتها عن القريب والبعيد، الذين لا يؤتمنون - بأن يقوموا بوصف زينتها ومحاسنها الى الرجال الغرباء - وهو أمرٌ لا تخفى مفسدته على المجتمع.
قيل :"إذا كان صوتُ زينة المرأة محرَّمًا فصوتها أولى بالحرمة" نقول نعم، إذا كانت قد تعمدت في تزيين صوتها بالتغنّج والتموّع وغيره، وليس مطلقاً، فَعِلَّةُ المنعِ هي إظهار الزينة كما هو ظاهر الآية، وقيل: "إذا كان صوتُ زينتِها محرمًا، والنظر إلى الزينة من المحرمات، فمن باب أولى، النظر إلى نفس المرأة أوكد في حرمته" ،نقول نعم لكن الخطاب في الآية موجه الى المرأة وليس الى من ينظر إليها، فذلك محله في الآية السابقة وليس هنا، كما إن تكليف المرأة بمنع الآخرين من النظر اليها، تكليف لا يقره العقل، نعم هي مكلفة بأن لا تُظهر ما يثير الآخرين ويزيد رغبتهم بالنظر اليها نظرة محرمة.
قوله تعالى ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بما أن الخطاب موجه الى المؤمنين، فالتوبة هنا هو الاستمرار على التوبة، لأنها سبب الى الفلاح، وقيل إنها التوبة من ارتكاب المحرمات المتقدمة، وقيل إن التوبة يجب أن يقيم عليها العبد كلما تذكر ما ارتكبه منها.
أفلح: فعلٌ ماضٍ معناه اللغوي هو إحداث الشق، ولهذا سميت الفِلاحة، لان الفلَّاح يُحْدِثُ شَقًّا في الأرض، وأيضاً هي تعني النجاح والظفر، وأما في الاصطلاح القرآني فالفَلَاح يعني أن العبد قد كسب رضى الله تبارك وتعالى ..
ــــــــ
https://telegram.me/buratha