رياض البغدادي ||
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿11﴾" سورة النور
الكلام في الآية من وجهين، الأول تفسيرها، والثاني سبب نزولها، فأما التفسير فاعلم أن الآية ذُكرت فيها ثلاثةُ أشياء:
الأول، إنه تعالى حكى واقعة الإفك بقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ ومعنى الإفك هو أبلغ مايكون من الكذب، فأصل الإفك هو القلب، أي قلب الحقيقة.
وفي هذه الواقعة قلبٌ واضحٌ للحقيقة لعدة أمور:
الأول: إن ما يشين في زوجات الأنبياء يُنَفِّرُ الناسَ عنه، وهذا خلاف ما أُرسل إليه النبي، فوجب أن يكون اتهام زوجة النبي إفكًا، فإنْ رُدَّ ذلك بما حُكيَ عن امرأة لوط، قلنا إنَّ امرأة لوط كانت كافرة، والكُفْرُ لا يُنَفِّر، أما كون إنها فاجرة فمن المُنَفِّرات، وربما قيل إن النبي لو عَلِمَ امتناع فجور أزواج الأنبياء، فلماذا ضاق صدره، نقول إن النبي يضيق صدره لكلام الكفار أيضًا، مع علمه بفساد قولهم، كما في قوله تعالى:
﴿ولقد نعلمُ أنكَ يضيقُ صدرُكَ بما يقولون﴾ الحجرـ 97.
والثاني: إن المعلوم عن زوجة النبي العفاف، فاللائق إحسان الظن بها.
الثالث: أن القاذفين كانوا من المنافقين، فتَحَصَّلَ من ذلك أن القول باتهام زوج النبي معلوم الفساد حتى قبل نزول الوحي.
قوله تعالى ﴿عُصْبَةٌ﴾ أي جماعة يعدونها من العشرة الى الأربعين، أما قوله تعالى ﴿مِنْكُمْ﴾ أي من طائفة المسلمين.
الرابع: إن الله تعالى شرح حال المقذوفين بقوله ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فإن استشكل بـ :
أولاً إنه لم يتقدم ذكرهما، وثانياً إنها صيغة جمع، والمقذوفان هما اثنان؟ والجواب عن الإشكال الأول أنه تقدم ذكرهم بكلمة ﴿مِنْكُمْ﴾ وعن الإشكال الثاني نقول إن المراد بلفظ الجمع كل مَنْ تأذى، ومنهم النبي وعموم المؤمنين.
فإن قيل أين الخير من هذا الضرر الكبير؟ قلنا لوجوه كثيرة:
الأول: إنهم صبروا لذلك البلاء وفي الصبر خير كثير.
والثاني: إنه لولا إظهار الإفك لكان الأمر يصير الى بلاء أكبر.
والثالث: نزول ثماني عشرة آية تُظهر شرفهم وطهارتهم.
الرابع: صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها، ومِنْ الناس مَنْ قال في قوله ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ إنه خطاب للقاذفين والخير هو:
الأول ،إنه تحذير لهم يوقفهم عن فعل غيره.
والثاني، إن هذا الذكر عقوبة معجلة لهم كالكفارة.
والثالث، إنه دفعهم للتوبة...وهذا القول في غاية الضعف لأن الله تعالى خاطبهم بالكاف، ولما وصف أهل الإفك جعل الخطاب بالهاء بقوله تعالى ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ ومعلوم أن ما اكتسبوه نفسه لا يكون عقوبة، فالمراد لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمّة في الدنيا، والمعنى أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض.
قوله تعالى ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه مسائل:
الأولى: قرئ كبره بالضم والكسر وهو (تعظيم الأمر) وإذاعته.
الثانية: الذي تولى كبره هو الصحابي حسان ومسطح وقيل ابن سلول.
الثالثة: المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدأ بذلك القول.
الرابعة: قال الجبائي قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ أي عقاب ما اكتسب، وفيه دلالة على أن مَنْ لم يَتُبْ منهم صار الى العذاب الدائم، لأن مع استحقاق العذاب لايجوز استحقاق الثواب.
وأما الكلام في سبب نزول الآية ،فقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين ماهذا نصه:" رقم الحديث 6903 - حدثني علي بن حمشاذ العدل ، ثنا أحمد بن علي الأبار ، ثنا الحسن بن حماد سجادة ، حدثني يحيى بن سعيد الأموي ، ثنا أبو معاذ سليمان بن الأرقم الأنصاري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أُهديت ماريّة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعها ابنُ عمٍّ لها ، قالت : فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملا ، قالت : فعزلها عند ابن عمها ، قالت : فقال أهل الإفك والزور : من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره ، وكانت أمه قليلة اللبن فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها ، فحسن عليه لحمه ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فدخل به على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذات يوم فقال : " كيف ترين ؟ " فقلت : من غذي بلحم الضأن يحسن لحمه ، قال : " ولا الشبه " ، قالت : فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت : ما أرى شبهًا، قالت : وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يقول الناس فقال لعلي : " خذ هذا السيف فانطلق فاضرب عنق ابن عمِّ مارية حيث وجدته " ، قالت : فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطبًا ،قال : فلما نظر إلى عليٍّ ومعه السيف استقبلته رعدة، قال : فسقطت الخرقة ، فإذا هو لم يخلق الله - عز وجل - له ما للرجال شيء ممسوح". انتهى نص الحديث.وهذا الحديث مروي كذلك في مصادر الشيعة ومنها ما عن علي بن ابراهيم القُمّي في تفسيره باللفظ التالي: " حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثنا عبد الله (محمد خ ل) بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عايشة: ما الذي يحزنك عليه، فما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله علياً وأمره بقتله، فذهب علي عليه السلام إليه ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط ،وضرب علي عليه السلام باب البستان فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب، فلما رأى علياً عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً ولم يفتح الباب فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريح مدبراً، فلما خشي أن يرهقه، صعد في نخلة وصعد علي عليه السلام في أثره فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا ما للنساء فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوتر أم أثبت؟ قال فقال: لا بل أثبت، فقال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال ولا ما للنساء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت".
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha