د.أمل الأسدي ||
كلما غصنا في أعماق المصادر التأريخية، هناك حيث البيت العتيق وآثار إبراهيم وإسماعيل(ع) وقفنا بدهشة عند بيتٍ تحيط به أنفاسٌ ملكوتية، هو بيت أبي طالب(ع) هذا الرجل الأمة الذي بنی أسرته بنيانا عجيبا، قويا متماسكا، ليكون القاعدة القوية لانطلاق الرسول الأعظم(صلی الله عليه وآله) ورسالته العالمية، في بيته بدأت رحلة تغيير وجه الأرض، والسمو بالنفس الإنسانية، فكانت زوجته(فاطمة بنت أسد) أمّا للرسالة وسيدها، وكان( أبو طالب) الأب والعماد والسند والمخطط الحكيم، والباذل الكريم، الصابر الصلد، المعين المذلل!!
وهذه الأسرة المباركة سخرت كل طاقاتها، وكل أعمدتها للرسالة الإسلامية، بدءا من التأسيس حتی الشيوع والسيادة، ومن أعمدة هذه الأسرة؛ صاحب الاسم الكريم، الذي يجلب الخير كلما ذكرته وهو (جعفر الطيار)
فاسمه مفتاح للطاقة الإيجابية ،والسكون والثقة بالنفس، والتوكل،والشجاعة، والتأثير في الآخر، والتفكير السليم، والتخطيط الناجح... الخ من صور الطاقة الإيجابية، فهو القدوة الفعالة التي منحها الله التأثير في حياتها وفي أثناء رحيلها وبعد رحيلها، التأثير المستمر من ولادته حتی لحظة ولادة هذه الحروف التي تسبّح باسمه!!
جعفر بن أبي طالب، الأخ الذي يكبر الإمام علي(ع) بعشر سنوات،أي أنه وُلد في ٢٠ من عام الفيل، كان أكثر الناس شبها برسول الله(صلی الله عليه وآله) وهو ثاني من صلی من الرجال مع الرسول، جعفر مفتاح الخير الذي يعتمد عليه الرسول، المفتاح الذي يفتح به باب الأمان والنجاة من عتاة قريش وتنكيلهم بالمسلمين، وسنقف عند محطات الخير ومفاتيحه التي يجسدها جعفر الطيار:
✅ مفتاح التحدي والنصر( الحبشة): حين اشتد ظلم المشركين علی المسلمين وضاقت بهم السبل، وجههم رسول الله بالهجرة إلی الحبشة، فأرسلهم بقيادة جعفر بن أبي طالب،وكان عددهم(٨٢) مسلما، ورافقتهم زوج جعفر(ع) أسماء بنت عميس، واستطاع (جعفر) بقراءته السليمة، وبقوة حجته، وبيان منطقه، وقدرته الخطابية المؤثرة أن ينجح في تحقيق الهدف من الهجرة،إذ قلب الحال علی وفد المشركين المحمل بالهدايا، والذي يقوده(عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد)ولاحظوا ذكاء جعفر الطيار وقدرته الحوارية الفذة، فحين تحدث ابن العاص(داهية العرب) الی النجاشي قائلا : "أَيُّها الملك ، إنّ قوماً خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا ، وصاروا إليك ، فردّهم إلينا"
فقال جعفر(ع) : أَيّها الملك ، سَلْهُم أَنَحْنُ عبيد لهم ؟ فقال ابن العاص : لا ، بل أحرار
فقال(ع) : سَلْهُمْ أَلَهُمْ علينا ديون يطالبوننا بها
قال : لا ، مالنا عليكم ديون
قال (ع): فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها ؟
قال : لا
قال(ع) : فما تريدون مِنّا ؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم ، ثمّ قال : أَيّها الملك ، بعث الله فينا نبيّاً ، أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان ، و إيتاء ذي القربى ، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي.
فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى ( عليه السلام ) .
ثمّ قال النجاشي لجعفر(ع) :
هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً ؟ قال : نعم ، فقرأ سورة مريم، ولمّا بلغ قوله : ((وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً )) ، قال : هذا والله هو الحق .
فقال ابن العاص: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا ، فرفع النجاشي يده وضرب وجهه، وقال : اسكت ... وقال : أَرْجِعوا إلى هذا هديّته ، وقال لجعفر وأصحابه : امكثوا فإنّكم سيوم ، والسيوم : الآمنون ، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق.
هكذا نجح جعفر(ع) في مهمته واستطاع بحذاقته أن يقنع النجاشي، فمنحه الأمان والحرية، وهذا والله، قمة الإيجابية، محفز للتغيير، مُفعّل للقدرات، فمن يقرأ هذا المشهد ويری كيف تحول الأمر من الخوف والترقب، الی الأمان والتأثير والحظوة الی درجة أن يسلم الملك النجاشي بفضل قائد الرحلة الناجح المتمكن.(١)
✅ مفتاح المحبة والمقام السامي (فرحة قدوم جعفر):
حين فتح المسلمون خيبر ودكوا حصونهم، وجاء نصر الله والفتح علی يد علي بن أبي طالب(ع) قدم جعفر الطيار الی المدينة، فقبله رسول الله الأعظم بين عينيه وقال(صلی الله عليه وآله): ((والله، ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟))(٢)
ثم قال:((حبيبي، أنت أشبه الناس بخُلقي وخَلقي، وخلقت من الطينة التي خلقت منها...)) (٣)
وهذا المشهد لوحده يمد المتلقي بشحنات إيجابية، ومحفزات للعمل الحثيث، فلا يضيع عملُ عامل في حسابات السماء، وفي سجلات محمد بن عبد الله، تلك السجلات التي تحفظ المواقف والوجوه جيدا، لذا وقف الذي ((...دَنا فَتَدَلَّى ۞فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنی)) ليقبّل الرجل المفتاح، شبيهه العزيز، ناصره في أرض الحبشة،رافع اسمه في أرض الملوك.
للبحث تتمة
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha