د.أمل الأسدي ||
لا يخفی علی كل باحث ومتتبع للنظرية النسوية ونشأتها،أنها تدور بمجملها حول إنصاف المرأة وإحقاق حقوقها، وتخليصها من التبعية للدور الأبوي الذكوري السائد في المجتمعات الإنسانية، فمنذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مازالت النظرية النسوية تقف علی أرض متحركة غير مستقرة من حيث المصطلحات والمفاهيم والحدود والماهية، فنلاحظ تحولاتها من النسوية الليبرالية الی الماركسية ثم النسوية المقاومة" الراديكالية" وهي تارة تسعی الی المساواة في الحصول علی الحقوق كفرص العمل والتصويت والتحرر من التبعية والتمييز ، وتارة ترفض الطبقية الاجتماعية التي خلقت فئات مضطهدة، فما فائدة مساواة النساء برجال مضطهدين أيضا بسبب الرأسمالية؟! وتارةً تجد النسوية تثور ضد النوع الجنسي، وتدعو الی استثمار التطور التكنولوجي لتخليص المرأة من التركيبة البيولوجية التي خُلقت بها،وجعلتها موطن التكاثر والإنجاب، ولعل هذا التوجه من أخطر التوجهات التي سلكتها النسوية؛لأنها تحارب الفطرة الإنسانية النسوية وتدعو الی تغييرها بتعسف!!
⭕ هل نحتاج الی نظرية نسوية عربية وإسلامية؟
ننطلق من هذا السؤال والإجابة عليه بـ(نعم، نحتاج إلی نظرية نسوية عربية وإسلامية) وذلك لأسباب عديدة منها:
١- مواجهة النظرية النسوية الغربية التي بدأت تهاجم النسيج الاجتماعي العربي والإسلامي، وتعصف بكيان المرأة المسلمة وبيئتها ومنظومتها القيمية التي تربت عليها، وتقاوم حربَ تمييع الهوية التي يشنها أغلب من يتبنی النظرية النسوية الغربية.
٢- عدم واقعية النظرية النسوية الغربية، وذلك في المجتمعات الغربية التي نشأت فيها، فما بالك بمجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تختلف في طباعها وثقافاتها وأفكارها وشرائعها عن المجتمعات الغربية؟!!
فهي نظرية تتبنی مشروعا إصلاحيا في الظاهر، إلا أنها تسلك طرقا فاسدة،تتناقض مع واقع المرأة وفطرتها الإنسانية وتركيبها البيولوجي.
٣- الهوة الكبيرة بين النظرية والتطبيق التي يعاني منها الواقع الإسلامي، فالمبادئ الإسلامية والتشريعات الإسلامية تقر حقوق المرأة وتمنحها المكانة التي تستحقها، من حيث العمل والذمة المالية المستقلة، والاحترام، والرعاية وكل صور التمكين،إلا أن الواقع الذي تعيشه معظم البلدان العربية والإسلامية بعيد من حيث التطبيق عن النظرية الإسلامية.
٤- إن المجتمعات الإسلامية عموما،والعربية خصوصا، تتكئ علی موروث سلبي مجحف بالنسبة للتعامل مع المرأة، صحيح أن هذه المجتمعات ليست الوحيدة في هذا الميدان، بل تشاركها الأمم الأخری في التمييز والاضطهاد والظلم والجور، إلا أن الشعوب العربية مازالت ترزح تحت ظلمات الجاهلية التي نبذها الإسلام وأنكرها،ومن أبرزها وأبرز صورها الوأد وكراهية الأنثی كما في قوله تعالی:((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ))(٢) صحيح أن الوأد قد تغيرت صوره وتمظهراته، فأصبح وأدا معرفيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا...الخ، إلا أن أثره مازال حاضرا في مجتمعاتنا، وعلی هذا نجد بعض المجتمعات الإسلامية غير العربية، لاتعاني من هذه الجاهلية، لأن تأريخها وموروثها لايتعامل مع المرأة التعامل نفسه في المجتمعات العربية، ومنذ وقت مبكر تم الالتفات الی هذه المسألة فنجد الشاعر إسماعيل بن يسار يقول(٣):
وَاِسأَلي إِن جَهلتِ عَنّا وعَنكُم
كَيفَ كُنّا في سالِفِ الأَحقابِ
إِذ نُرَبّي بَناتِنا وَتدسّو
نَ سَفاهاً بَناتِكُم في التُّرابِ
وهذا ما جعل مجتمعاتنا العربية تحتاج -أكثر من غيرها -الی نظرية نسوية، ونهضة نسوية لاتتعارض مع المنظومة القيمية الإسلامية، وتسعی لتحرير المرأة من ظلمات الجاهلية، فعلی سبيل المثال، نجد الفرق شاسعا بين واقع المرأة في البلدان العربية وواقعها في الجمهورية الإسلامية!
علی الأصعدة كافة،الاجتماعية والقانونية والسياسية والاقتصادية، ومع ذلك مازالت النسوية الغربية تحاول النيل من حال الاستقرار والقوة التي تتمتع بها المرأة هناك،ولاسيما في الآونة الأخيرة ومحاولاتهم إثارة قضية الحجاب الذي يمثل الثيمة الإسلامية الأبرز بالنسبة للمرأة المسلمة في الجمهورية الإسلامية وفي البلدان الأخری التي تحترم هويتها الإسلامية.
٥- تعاني المرأة المسلمة ولاسيما العربية من ظلم مركب، فجل المؤسسات الحكومية والدينية والمدنية تنادي في خطاباتها بحقوق المرأة وإنصافها وتمكينها، ولكنها خطابات تُلقی وحسب!! وفي الواقع؛ أن المرأة تعاني من الظلم والتهميش وفقدان التمكين ولاسيما أهم أنواعه وأعني التمكين الاقتصادي؛لذا نسمع في العراق مثلا، دائرة تمكين المرأة ووحدات تمكين المرأة؛ولكن يرتكز جُلّ عملها في الندوات والخطابات الجوفاء التي ليس لها أثر ملموس منعكس علی واقع المرأة، وأصطلح علی هذا التمكين "
التمكين المزيف" وهو نمط آخر يختلف عن التمكين الفاسد(غير الآمن) الذي ذكرناه سابقا، ويمكننا القول: إن كلّ تمكينٍ فاسد هو تمكين مزيف، وليس كل تمكين مزيف هو فاسد! فمتن التمكين المزيف ومادته سليمة من الناحية النظرية في الغالب، إلا أنه مجرد كلام ورؤی وطموحات مبعثرة لاتصل الی طرح نظرية مستقرة ومشاريع يمكن تطبيقها في الواقع، بخلاف التمكين الفاسد الذي يسعی لدعم المرأة ماديا الإ أنه يسلبها الدعم الروحي والاستقرار، ويضعف جذورها، ويبترها عن أرضها ومنظومتها القيمية، وحريتها الشخصية في الحفاظ علی هويتها الإسلامية ، ويفرض عليها لونا من الحياة القائمة علی الصراع، فلا يفارقها الشعور بأنها ملاحَقة، وأنها مخلوق من الدرجة الثانية، وأنها يجب أن تبني علاقاتها الاجتماعية بناءً نفعيا براغماتيا خالصا،حتی مع أفراد أسرتها، ويجعلها تعيش حربا بين ذاتها ومشاعرها وغرائزها الإنسانية،فهو تمكين يسلبها عنصر الاستقرار والثبات والحياة الهادئة، ويحولها إلی اداة رخيصة بيد الأنظمة السياسية المستبدة،التي دأبت علی توظيف الأموال والنساء من أجل بسط النفوذ والسيطرة علی مقدرات الدول، فمتی ما تمت السيطرة علی النساء وإشاعة الانحلال وانشاء الملاهي والنوادي الليلية، ونشر الشذوذ والغرائز البهيمية ومثيراتها، والتفكك الأسري،ومتی ما تجرد المجتمع من الأخلاق أو الثوابت الأخلاقية الدينية، وتضليل الشباب وإفسادهم وإشغالهم ببعض الفنون والملاهي والألعاب الرياضية، ثم إفساد الذوق الإنساني، وتشويه الفطرة، وتمزيق النسيج الاجتماعي،وتسقيط الثوابت الدينية مع غياب القدوة المؤثرة في الواقع الحياتي، وتمكين النماذج التافهة المنحلة وتقديمها كقدوة مزيفة للشباب والمجتمع برمته، بعد كل ذلك تسهل السيطرة علی مقدرات البلدان والاستحواذ عليها.
⭕ ملحوظة: هذه المادة جزء من كتابي الجديد عن تمكين المرأة" الإسلام والمرأة، كيانٌ وتمكين"
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha