دراسات

القواعد القرآنية  للمجتمع التوحيدي.ج2 /


الشيخ طالب رحمة الساعدي ||

 

·        رحلة تدبّرية مع خطاب " ايها الذين امنوا ....." في مضان بعض التفاسير

التمهيد :

" القَاعِدَة" في مصطلح أهل العلم الضابطة، و هي الأمر الكلي المنطبق على جميع الجزئيات، كما يقال" كل إنسان حيوان و كل ناطق إنسان" و نحو ذلك.

و القاعِدَةِ: أَصلُ الأُسِّ، و القَواعِدُ: الإِساسُ، و قواعِد البيت إِساسُه. و في التنزيل: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ‏ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ‏؛ و فيه: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ‏ الْقَواعِدِ؛ قال الزجاج: القَواعِدُ أَساطينُ البناء التي تَعْمِدُه. و قَواعِدُ الهَوْدَج: خشبات أَربع معترضة في أَسفله تُركَّبُ عِيدانُ الهَوْدَج فيها. قال أَبو عبيد: قواعد السحاب أُصولها المعترضة في آفاق السماء شبهت‏ بقواعد البناء.

وكذلك ذهب صاحب كتاب تاج العروس 

في الاصطلاح: القاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط، وهي الأمر الكلّيّ المنطبق على جميع جزئيّاته.

وما يناسب بحثنا ، هو المعنى الذي ذكره صاحب لسان العرب ، من ان القاعدة هي الاس ، والقواعد هو الاساس ، فيكون المراد منها ما يبناء عليها غيرها فلذا يطلق على اساس البيت القواعد ، وهذا ما استخدمه الوحي الالهي في قصة النبي ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ،

ووصف تلك القواعد بالقرآنية يدلّ على أنها: (مستخرجة من نصوص القرآن)، وفي هذا إشارة إلى مادة هذه القواعد؛ فهي مأخوذة من الآيات القرآنية، وليست كقواعد المفسرين أو الأصوليين التي يجتهد العلماء في صياغتها وتحرير ألفاظها. 

وعليه يكون المراد من " القواعد القرآنية" هي تلك الأُسس القرآنية التي تدلّ على حقائق ثابتة مطّردة، وتحتوي على خطابات وتكاليف تبني الانسان على المستوى الشخصي والعام – المجتمعي - .

و حيث انه تعالى قد خاطب المؤمنين بقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا } في تسعة وثمانين موضعاً من القرآن ، وتصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به ، لأن النداء يحصل به تنبيه المخاطب،  فيدل على العناية بموضوع الخطاب.

فيمكن القول بان هذا النوع من الخطابات الالهية تكون اسس وقواعد قد ذكرها الحق تعالى لبناء المجتمع الانساني المعهود له ان يكون بحق خليفة له تبارك وتعالى في الارض ، ووفق هذه القواعد والاسس يبتعد المجتمع المؤمن عن ما نبهت اليه الملائكة بقولها

" وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ  " البقرة :30

وقد ورد النداء { يا أيها الذين آمنوا } فى 20 سورة في القران بينما 94 سورة فى القرآن تخلو من النداء ب: { يا أيها الذين آمنوا )

" و التعبير عن المؤمنين بلفظة " الذين آمنوا " بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الأمة، و أما الأمم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: «قَوْمِ نُوحٍ‏ و قَوْمِ هُودٍ» و قوله: «قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ...» و قوله: «أَصْحابِ مَدْيَنَ‏ و أَصْحابَ الرَّسِ‏، و بَنِي إِسْرائِيلَ‏، و يا بَنِي إِسْرائِيلَ‏، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا مما يختص التشرف به بهذه الأمة..." 

وقد ذهب بعض المفسرين الى ان المراد من " الذين امنوا " في هذا الخطاب مطلقا ، هم المؤمنون الأوائل حيث أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الأولين من المؤمنين، و لا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله ص من مشركي مكة و أترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ، أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»: البقرة- 6.

فإن قلت: فعلى ما مر يختص الخطاب بالذين آمنوا بعده خاصة من الحاضرين في زمان النبي ص مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور و غيره و الحاضرين الموجودين في عصر النبي ص و غيرهم و خاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.

قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فإن لسعة التكليف و ضيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب و ضيقه من الأسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعلى هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أَيُّهَا النَّبِيُ‏، و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ‏ مبنيا على التشريف، و التكليف عام، و المراد وسيع، و مع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا

ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ»: النساء- 137، و قوله تعالى: حكاية عن نوح: «وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ»: هود- 29." 

وبعبارة اخرى :

" و كلمة «الَّذِينَ آمَنُوا»* تعني كل من توجد فيه هذه الصفة: الايمان بالله .. فعليه ان يلتزم بمسئوليات الايمان التي تعرضها الآية المبتدئة بهذه الكلمة.

و هكذا بالنسبة الى الآيات النازلة في حكم على أحد المؤمنين بشروط خاصة في عصر النبوة او عهد الرسالات السابقة، فانه يسري ذلك الحكم على غيره لو توفرت تلك الشروط في العصور التالية أيضا.

و الآيات التي تمدح أو تذم بعض من يتحلى بصفات ممدوحة أو يتصف بصفات مذمومة، تشمل كل من يتصف بها ممن لم يعاصر عهد النبوة.

فاذا مورد نزول الآية، لا يكون مخصصا لها.

فلو نزلت في شخص أو اشخاص معينين، لا تكون الآية جامدة في ذلك الشخص او اولئك الاشخاص، بل ترى في كل من يشترك مع اولئك في الصفات التي كانت موردا لتلك الآية. 

" و في جملة كثيرة من الأحاديث أنه ما أنزلت آية فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا و عليّ رأسها و أميرها.

و عن علي (عليه السلام) «ليس في القرآن يا أيّها الذين آمنوا إلّا و في التوراة يا أيها المساكين»...

و يشمل الخطاب كلا من الحاضرين في مجلسه و الغائبين بل المعدومين أيضا، لأنه متعلق بالعنوان من حيث كونه طريقا إلى المعنون.

و إنما ذكر الإيمان في متعلق الخطاب، لأجل الترغيب إليه و تحريض النّاس إلى الاتصاف به ابتداء ثم العمل بما يتعلق به، فيكون مثل هذا الخطاب أشد في جلب القلوب و آكد في الدعوة إلى المطلوب، و له نظائر كثيرة في‏  كلام الفصحاء من العرب و غيرهم."

و فيه من التحبب و الملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، و المنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة، و هو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا

و مغزى قوله تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " أكثر من ثمانين موضعا خاطب اللّه المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، و كل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، و لا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، و لعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، و إلى ظهور المجتمع الإسلامي بعد الهجرة. و لذلك خاطب اللّه الجماعة المؤمنة بعبارة " يا أَيُّهَا الَّذِينَ‏ آمَنُوا ".

و هذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّها بعد الإيمان به، و هذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة و الانصياع لأوامر ربّ العالمين، و الاستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام....

و من الجدير بالذكر أنّ هذا النداء يذكر في كلّ مورد يبيّن عزّ و جلّ حكما عمليّا، أو شرطا من شروط الإيمان المطلوب، أو ما يتعلّق بتهذيب النفس و مكارم الأخلاق،

اختلاف النداء القرآني بين‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»

ثم انه يوجد نداء اخر ذكره الحق تعالى في كثير من الايات وهو نداء " يا ايها الناس " ، والفرق  بينهما هو :

تبدأ السورة يا أَيُّهَا النَّاسُ‏ في نداء إلهي الانخراط في سير تقواه تعالى. و ذلك انطلاقا من كونه هو خالقهم‏ «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ»، تؤكد على وحدة نوعهم و مصدرهم، و بالتالي على وحدة سيرهم المشترك «نحو اللَّه تعالى»، الأمر الذي يفرض عليهم الانخراط في خط تقواه تعالى، لما تقتضيه الحاجة العميقة للمخلوق بالخالق، في كل مجالات الحياة الروحية و غير الروحية. و لعلّ التدقيق في هذا الجانب يؤدي الى الانفتاح على آفاق جديدة من خصائص الوحدة في هذا التنوع الإنساني، و روعة العظمة في هذا التلاؤم بين الوحدة و التنوّع، في ما يوحيه من وحدة الشعور و حيوية العلاقات الإنسانية، التي يريد القرآن تركيزها على الأسس الروحية المرتبطة باللَّه دائما، باعتباره القوة التي تجمعهم في ما اختلفوا فيه.

و من الممكن أن يكون هذا المعنى، هو الذي أوجب اختلاف النداءات، فهناك النداء الذي يبدأ بكلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ‏، و النداء الذي يبدأ بكلمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في ما يريده القرآن من الدعوة الى التقوى.

فإن هناك أسلوبا يعمل على تحريك النفس الإنسانية على مشاعر الإيمان و التقوى في جانبها الإنساني، و يقابل ذلك في اتجاه المؤمنين، أسلوب آخر يخاطب به المؤمنين لاستثارة إيمانهم، و تحويله إلى قوة فاعلة حية لا تتجمد في المشاعر، و لا تغيب في أجواء التجريد؛ للتأكيد على تزاوج الإيمان و العمل في علاقة الإيمان بالفكر و الشعور بالعمل في خط الحركة. و في هذا الجو يستطيع الداعية المسلم أن يفرّق في أسلوبه العملي الذي يريد من خلاله استثارة الآخرين بطريقة النداء، بين ما يرتبط بالجانب الإنساني الذي يخاطب به جميع الناس، و بين ما يرتبط بالجانب الإيماني الذي يخاطب به المؤمنين؛ فلا يخلط بينهما، حين يفرض فيه التفريق؛ لأن لذلك دخلا كبيرا في واقعية الأسلوب و مرونته و فاعليته. و ربما كان من المفيد- في هذا المجال- أن لا يشعر بالحرج، إذا احتاج إلى تجاوز صفة الإيمان في خطابه، و التأكيد على الصفة الإنسانية، تبعا لاختلاف المواقف و الأشخاص، لأن ذلك لا يعني إغفالها، بل يعمل على إغنائها بعنصر إيجابي جديد.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك