د. علي المؤمن ||
يتمظهر الوعي الواقعي والعصري للفقيه بموضوعات الأحكام الفقهية في ثلاث حالات غالباً:
1 - فهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة، الفردية والعامة، والتي كانت لها أحكام سابقة، وفهم طبيعة التحول والتغيير، وينبغي أن تكون لها أحكام جديدة.
2 - فهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة، وعموم المستجدات في مختلف المجالات، الفردية والعامة؛ بهدف إصدار الأحكام الشرعية الخاصة بكل موضوع وواقعة.
3- تشخيص المصالح والمفاسد المتعلقة بالمجتمع، وإصدار الأحكام الشرعية العامة الموافقة لها، بما في ذلك الأحكام الثانوية والولائية، في إطار قواعد فقه مقاصد الشريعة وفقه الأولويات.
وربما لا تتحقق مقاصد الشريعة في كثير من القواعد الشرعية الموروثة ومخرجاتها، ولا سيما في الموضوعات العامة التي تعرضت لتحولات زمانية ومكانية، أو تغيرت الظروف التي أدّت إلى تغير أدلة أحكامها، الأمر الذي يستوجب استنباط حكم جديد مناسب. ويؤسس الإمام الخميني لهذا الاتجاه الاجتهادي بقوله: «القضية التي كان لها حكم معين في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، فيما يتعلق بالعلاقات التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أن نتيجة المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول - الذي لم يتغير في الظاهر - إلى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة».
هذا الاتجاه الاجتهادي الذي أطلق عليه بعض الفقهاء «التحول في الاجتهاد» يقوم على أساس تغيّر الزمان والمكان والظروف في شتى مجالات الحياة، والذي يستتبع حدوث موضوعات جديدة، أو تغيّراً في أصل الموضوعات أو خواصها الداخلية والخارجية، كلّها أو بعضها. والنتيجة تغيّر أدلتها الشرعية، أو تغيّر فهم الفقيه للموضوعات السابقة، أو فهم الفقيه للدليل. وبكلمة أخرى: عدم البقاء على حكم موضوع معيّن عند تغير بعض خواصه، أو تغير الظرف الذي أدّى إلى ذلك الحكم، ولا سيما في الموارد التي ليس فيها نص.
فالمتغير هنا ليس حكم الشرع، بل موضوع الحكم؛ لأن الموضوع يتقوم بمجموعة القيود المأخوذة فيه، فإذا انتفت كلها أو بعضها انتفى الموضوع؛ لأن: «المقيد عدمٌ عند عدم قيده» كما قرر ذلك علماء أصول الفقه في بحث قاعدة القيود. وبذلك يتبدل الحكم تبعاً لتبدل الموضوع. فمرور الزمان واختلاف المكان وتغير الأوضاع، وتجدد التقاليد والأعراف، لا تغير الأحكام الشرعية؛ على اعتبار أن التحول في الاجتهاد يؤدي إلى عرض الجديد في الحياة على الفقه، ثم يخضعه للشريعة، وليس العكس، أي أنه ليس تغييراً في الأحكام تكون نتيجته عرض الفقه على الجديد في الحياة، ثم إخضاع الشريعة للحياة، أو بكلمة أخرى، «تفصيل الشريعة على مقاس العصر»، وهي القاعدة التي ترفضها مقاصد الدين عموماً.
ومما لا شك فيه أن وعي التحولات والمتغيرات واكتشاف الموضوعات الجديدة، ثم ترتيب الأحكام الشرعية عليها، هي مهمة الفقيه حصراً، وليست مهمة المثقـف أو الأكاديمي، مهما بلغ مستواه المعرفي؛ لأن تعيين موقف الشريعة من الموضوعات تدخل في تعبّر عن فهم فقهي وأصولي بالغ التخصص.
ومن النماذج المعروفة لتطبيق اتجاه التحول في الاجتهاد؛ الأحكام الشرعية الجديدة لموضوعات سابقة متحولة في قيودها وشرائطها وظروفها، والتي عبّرت عن وعي الفقهاء بعصرهم: جواز بيع الدم وشرائه، جواز تشريح الميت، جواز بيع أعضاء جسم الإنسان وشرائها، وزرعها في جسم إنسان آخر مع أن انفصالها عن الجسم السابق يحوّلها إلى «ميتة»، جواز صناعة التماثيل، باعتبارها لوناً من ألوان الفنون الجميلة، لعب الشطرنح، جواز تنظيم النسل، جواز تأميم الأنفال (الغابات، البحار، المعادن وغيرها) وتقنين التصرف بها من قبل الدولة، تقنين التصرف بالأراضي، حتى البوار منها، من قبل الدولة، وغيرها من الموضوعات الخاصة والعامة التي تستلزم صدور أحكام جديدة أو ثانوية أو ولائية. مع الأخذ بالاعتبار الأغراض المحددة لهذه الموضوعات، كأغراض بيع الدم وتشريح الميت وزرع الأعضاء وتحديد النسل وغيرها؛ فهي جائزة ومشروعة بحدود أغراضها، وليست جائزة بالمطلق.