د. علي المؤمن ||
يشكّل وعي العصر لدى الفقيه ووعي التراث لدى المثقف، ثنائيةإشكالية مهمة على المستويين النظري والتطبيقي، وهذه الثنائية هي من مظاهر الخلل المعيق لمشروع نهوض المسلمين ودفع عجلة التنمية المجتمعية والثقافية والعلمية والسياسية الشاملة. ورغم أن الواقع الإسلامي بمختلف قطاعاته يعاني من ضغط هذه الثنائية، إلا أنها على مستوى الفقهاء والمفكرين والمثقـفين؛ تشكل أزمة حقيقية؛ لأن هذه الفئات الثلاث مجتمعةً تمثل عقل الأمة ومحور حركتها.
إن إشكالية وعي الفقهاء لعصرهم، تتمظهر في حصر بعض الفقهاء اهتماماته في زاوية العلوم المعهودة في الحوزات الدينية، أو التراث العلمي الديني بتعبير آخر؛ فيكون ذلك محور اختصاصه وثقافته. وحين يرى هذا البعض أن علوم الفقه والأصول والرجال والدراية واللغة والأخلاق والمنطق وآيات الأحكام هو محور حاجاته العلمية والمعرفية، كما هو الحال مع أي مختص آخر، كالفيزيائي والطبيب والمهندس؛ فلا يجد حاجة إلى أية ثقافة من نوع آخر، عصرية أو غير عصرية، كثقافة العلوم البحتة والتطبيقية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والأدبية، بل وحتى التاريخية والفلسفية أحياناً، فضلاً عن وعي قضايا الحكم والسياسة الدولية. وإذا اكتسب الفقيه ثقافة معينة في هذه المجالات؛ فذلك يشكّل اهتماماً شخصياً محضاً، أو ترفاً ثقافياً لا علاقة له بكونه فقيهاً؛ بل هناك من يعتقد أن هذه الاهتمامات تصرف الفقيه عن تخصصه الحقيقي، وتشتت ذهنه، وتفقده العمق الفقهي المطلوب؛ إذ إن هذا العمق أو الغوص المتأصل في قضايا الفقه ومسائله المتشعبة، وإشكالاته وفرضياته، هي التي تحفظ للفقيه مقامه العلمي، وتكسبه ملكة الاجتهاد المطلق والقابلية على حل أعقد المسائل الفقهية والأصولية.
وفي المقابل؛ يعتقد آخرون بأن هذا اللون من التخصص المنغلق، قد يخلق عمقاً فقهياً في المجالات الفردية والعبادية، أو سائر المسائل التقليدية التي يتجاوزها الزمن تدريجياً. وربما يتحوّل هذا التبحر والتخصص المنغلق على العلوم الشرعية، إلى هدف بذاته، كسائر العلوم النظرية، وليس إلى وسيلة لقيادة الحياة، ويخلق متخصصاً في الفقه، وليس فقيهاً، بالمعنى الذي يجعله في موقع مرجعية الأمة، وهو الموقع الذي يفرض الانفتاح على حاجات العصر ودخول عالم التحدّيات بمختلف مستوياته ومجالاته، والمعرفة بالواقع، وفهم حاجات المجتمع، وإدراك الموضوعات إدراكاً كاملاً، مع الأخذ بعين الاعتبار تحولاتها وتغيّرها من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر. كما أن الوعي بالعصر ومتطلباته، والمستقبل واستدعاءاته؛ يمكّن الفقيه من تحديد مصالح المجتمع الداخلية والخارجية، والعمل وفقها. وهذا التحديد هو الذي يجسد مقاصد الشريعة، حتى إن الإمام الخميني بقوله: «لو كان هناك شخص أعلم من ناحية العلوم المعهودة في الحوزات، ولكنه لا يستطيع تحديد مصلحة المجتمع.. فهذا الشخص ليس مجتهداً في المسائل الاجتهادية والحكومية»؛ اعتبر أن القابلية على تحديد مصالح المجتمع شرطاً في الاجتهاد الجديد.
وبما أن المسائل الاجتماعية تشتمل على النسبة الأكبر من أبواب الفقه، فهذا يعني أن الفقيه المجتهد في القضايا الفردية والعبادية، وعموماً المسائل الفقهية المتوارثة عبر الأزمان، يعدّ -حسب رأي الإمام الخميني- مجتهداً فاقداً لبعض شرائط المرجعية القيادية للأمة، وإن تحققت أعلميته في تلك المسائل الفردية والعبادية أو المعاملات. وهذا يعني أن عدم الوعي بالعصر ومتطلباته وبمصالح المجتمع وحاجاته، يتعارض مع طبيعة وظائف الفقيه الأربعة أو الخمسة، وخاصة وظيفة قيادة المجتمع من خلال ولايته على الأمور الحسبية، أو وظيفة قيادة الأمة من خلال ولايته على الحكم.
وفي مجال المسائل الفقهية التقليدية، كأحكام الطهارة والمياه والنجاسات والصلاة والصيام، وعموم العبادات والمكاسب والبيع والمرابحة والربا والمضاربة والنكاح، وعموم العقود، ثم عموم الإيقاعات، من طلاق وعتق وغيرهما، وكذلك أحكام الإرث والقضاء والحدود والقصاص والديات، في هذا المجال؛ يُلاحظ أن هناك المزيد من التأكيد والتركيز والتعمق في المسائل الشرعية نفسها التي أشبعها الفقهاء بحثاً وتمحيصاً ونتائج، خلال مئات السنين، ودليل ذلك؛ الموسوعات الفقهية والأصولية وكتب الفتاوى والأحكام الشرعية (الرسائل العملية) الحديثة، والتي تتشابه في منهجها وعرضها ومعظم مادتها واستدلالاتها مع ما صدر خلال الألف سنة الماضية. في حين تنحصر الجهود حيال معالجة القضايا الجديدة التي باتت مساحاتها تتضاعف وتتضخم باطراد وبشكل يومي، وفي مقدمتها المسائل الجديدة للمجتمعات المسلمة، أو النظام الاجتماعي الإسلامي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والدفاعية والتكنولوجية والعلائقية وغيرها، وهي المسائل التي يفترض أن تتركز عليها الجهود، وهي من البديهيات التي تدل عليها أهداف الإسلام في قيادة الحياة.
وعند هذه النقطة نعود إلى القول بأن وعي الفقيه بالعصر وثقافاته وحقائقه وتحولاته بالنسبة ل، هو مقدمة إنطلاق النهضة الجديدة في واقع المسلمين؛ بل هو أساس الاجتهاد والتنظير الفقهي في مجال الحاجات الاجتماعية الجديدة، ومن خلاله يمكن للفقيه فهم موضوعات الأحكام المختلفة فهماً واقعياً وميدانياً وحسياً، مقدمة لإصدار الحكم الشرعي، الأكثر التصاقاً بالحقيقة (الدين).
https://telegram.me/buratha