دراسة مشتركة بقلم: العلامة الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن ||
* القسم الثالث:
*ضرورات تجديد الشريعة الإسلامية ومناهجها
في مجال الفقه أيضاً هناك معطيات مستجدة دائماً تستدعي ربما انبثاق مناهج جديدة في التفكير. فعلم الفقه يشهد منذ بدايات تأسيسه تحولات مستمرة في المنهج والأُفق وأساليب التفكير، تتناسب مع مرونة الشريعة، بالصورة التي تجعله يتفاعل بشكل مناسب مع الواقع المتحرك بسرعة هائلة، حيث لا يكفي ترديد شمول الشريعة لجميع الوقائع الحياتية، دون المبادرة للمزيد من الاكتشاف في أبعاد الشريعة. هنا يبرز الحديث عن طبيعة التحولات اللازمة في مناهج التفكير الفقهي وأساليب الاجتهاد الفقهي وآفاق حركة الاجتهاد، والتي يمكن من خلالها استيعاب إشكاليات المستقبل نظرياً وتقنياً، والموقف الفكري من انبثاق منهج جديد في التفكير الفقهي عنوانه: «فلسفة الفقه» يهدف إلى جدولة تلك التحولات والقيام بتنفيذها.
لقد أُريد للفقه منذ بدايات تأسيسه أن يكون القانون الدائم الذي يقود الحياة وطبيعتها، أي أنّه علم آلي وعلم تطبيقي وليس علماً نظرياً. وعلى هذا الأساس، يجب أن نتعامل مع غاية الفقه في كل عصر، فنوفر للفقه كل المقومات اللازمة من أدوات وأساليب لقيادة الحياة، فضلاً عن النظرة الشمولية المتجددة التي ينظر الفقه من خلالها إلى الحياة ومكوناتها: الإنسان، المجتمع، الطبيعة، العلاقات، ونقصد بالمكون الأخير العلاقات التي تربط الإنسان بالله تعالى وبالإنسان الآخر والمجتمع والطبيعة. هذه النظرة الشمولية الدينامية ستحفظ للفقه أصالته، وستدخله إلى هذا العصر وكل عصر من أوسع الأبواب. ومن خلال احتفاظه بخاصيتي الأصالة والمعاصرة يستطيع الإسلام أن يحقق مقولة: «الإسلام يقود الحياة» كما نظر لها أُستاذنا الإمام الشهيد محمد باقر الصدر.
و نعتقد أنّ الثورة المنهجية الفقهية التي قام بها الإمام الخميني والإمام الصدر، والمدرسة الفقهية التي يلتقيان عندها، من شأنها أن تتكفل بتحقيق التحول المطلوب في الفقه. وانبثاق ما عرف بـ«فلسفة الفقه» هو نتيجة للضغوط المتوالية على الفقه التي تركتها التحولات المعقدة في شكل الحياة، وازدياد الموضوعات وازدياد أسئلة الإنسان، فالإنسان يطالب الفقه أن يجيبه عن كل إشكال شرعي يواجهه. وإذا كانت منهجية «فلسفة الفقه» تدعم هذا الاتجاه وتحاول تمكين الفقه من ترتيب الإشكاليات وأولوياتها والكشف عن مراد الشارع ومقصده، فهي منهجية مطلوبة، بغض النظر عن التسمية؛ فهي تلتقي في أهدافها مع مدرسة الصدر ـ الخميني التجديدية في الفقه، ولكن يبقى علينا حيال كل الأفكار الجديدة، كما في «فلسفة الفقه» أن نحتفظ بأصالة المنهج، فلا نضحي بها في سبيل الأهداف، أو في سبيل محاكاة بعض المنهجيات المستوردة، بالصورة التي يحاولها بعض كتّابنا ومثقفينا من استخدامهم منهجية الفلاسفة والمفكرين الغربيين في تفسيرهم للدين، ومنها منهجياتهم في «فلسفة الدين» وغيرها.
إنّ غايات الفقه الإسلامي وأهدافه واضحة كل الوضوح، كما أنّ أدواته وآلياته وأُصوله، حتى التي يتدخل الإنسان (المتخصّص طبعاً) في تأصيلها، تلتقي بروح الشريعة ومقصدها. ومن هنا فإنّ كل منهجية جديدة لا بدّ أن لا تتقاطع مع روح الشريعة ومقاصدها. وأود هنا أن أُشير إلى ملاحظة أساسية في هذا المجال: نحن ليس لدينا عقدة من الأفكار، أو المنهجية التي يكتشفها ويبلورها الآخر، سواء كان هذا الآخر غربياً أو من أيّة نحلة وملّة كان، ولا نتخوف منها ولا نتحرج من استثمارها إذا كانت ـ أولاً ـ لا تجافي مبادئنا ومعتقداتنا وقواعدنا الشرعية، وكانت مفيدة ـ ثانياً ـ وغير مبهمة وغير معومة في صياغتها ـ ثالثاً.
وبالعودة إلى أهداف الفقه في استيعاب جميع الوقائع الحياتية؛ فلا شك أنّ التسميات غير مهمة؛ بل الأساس هو أصالة المنهج الذي تعتمده النظرية الجديدة أو الفكرة الجديدة أو الآلية الجديدة. ويمكن للفقه أن يحتفظ بخاصتي الأصالة والمعاصرة، وبالتالي تحقيق هدف: «الإسلام يقود الحاضر والمستقبل»، عبر الكثير من الخطوات والآليات العلمية، وأهمها:
أولاً: تطوير ما عرف بـ«فقه المقاصد» الذي يعطي للفقه دفعاً قوياً نحو وعي مقاصد الشريعة؛ بهدف استيعاب مختلف القضايا الفقهية الإشكالية، وتحويل فقه المقاصد الشرعية إلى جزء علمي من علم أُصول الفقه، وتحريره من المنهج الخطابي ومن المفاهيم العامة.
ثانياً: تطوير ما عرف بـ«فقه النظرية» من استقراء الحالات الفردية، والخروج بتصور نظري لموقف الإسلام من القضايا الحياتية المهمة، وهو ما نسميه بالنظرية الشمولية التي تستوعب كل خلفيات وأبعاد القضية، ومساحات تطبيقها والنتائج التي ترتبت على ذلك، وعلاقاتها بالقضايا الأُخر. ولا شك أنّ الخروج بالتصور النظري المطلوب لموقف الإسلام يتم عبر استنباط علمي رصين يحمل كل العناصر الاجتهادية، ويعتمد على مجموع آراء العلماء بعد التنسيق بينها؛ لأنّها كلها جاءت حصيلة لاجتهاد مقبول إسلامياً، وهو ما فعله الإمام الشهيد الصدر.
ثالثاً: اعتماد الاجتهاد الجماعي أو المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يتوصل إليه مجموعة من الفقهاء في قضية معينة أو أكثر، بعد أن يناقشوا موضوعها معاً ويناقشوا مدارك حكمها ويخرجوا بنتائج مشتركة تعبّر عن رأيهم الفقهي جميعاً.
رابعاً: إصدار معاجم أو نشرات علمية مهمتها توضيح الموضوعات الحياتية المستحدثة بالتفصيل؛ ليكون الحكم على الموضوع مستوعباً لكل أبعاده، أي على بصيرة كاملة.
وتعتمد بعض المناهج الفقهية السائدة إلى إهمال دخالة عنصري الزمان والمكان في تشكل موضوعات الأحكام الشرعية؛ نتيجة تمسكه الحرفي بالنصوص وبالأساليب في فهم النص، مما يؤدي إلى منح الكثير من الأحكام أو الفتاوى إطلاقية غير مبررة، لا تعمل على احتجاز الواقع في إطارها فحسب؛ بل تؤدي إلى تفويت الملاكات الملحوظة في جعل الأحكام. ويمكن هنا تحديد آلية لاكتشاف تأثير عنصري الزمان والمكان في قراءة الشريعة وتوظيفها لمواجهة ضغوط المستقبل.
واعتماد عنصري الزمان والمكان في فهم الموضوعات واستنباط الحكم الشرعي الذي يناسبها؛ يعني تدخلاً للفكر الإنساني في العملية الفقهية، ولا يمكن أن يتم هذا إلّا في إطار ما تسمح به الشريعة نفسها، وإلّا فقدنا خصيصة الأصالة في فقهنا وتحوّلنا إلى فقه وضعي. وما تسمح به الشريعة هي مجالات المرونة فيه. ونؤكد هنا أنّ عنصري الزمان والمكان لا يغيران الأحكام، ولا يتدخلان في صنع الأحكام، بل يؤثران في فهم الفقيه للموضوعات، ويؤثران في ماهية الموضوعات، مما يؤدي إلى تحول فيها، وهذا التحول في الموضوعات تترتب عليه أحكام جديدة.
إنّ هذا الفكر الاجتهادي التجديدي أسّسه وبلوره الإمام الخميني، الذي قال بتأثير الزمان والمكان في الموضوعات الفقهية. ولا سيّما في الفقه الاجتماعي الذي يتجاوز الأفراد. وهنا تحضرني مقولة للإمام الخميني مضمونها: إنّ القضية التي كان لها حكم محدد في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، وذلك فيما يتعلق بالعلاقات التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أنّ نتيجة المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول الذي لم يتغير في الظاهر، تحوّله إلى موضوع آخر يترتب عليه حكم جديد بالضرورة. وقول الإمام الخميني هذا يعني أنّ فهم الفقيه هو المتغيّر نتيجة التراكم المعرفي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هذا أولاً.
وثانياً يعني أنّ التطور في مجالات الحياة وعلى مختلف الصعد يخلق بمرور الزمن وباختلاف المكان وضعاً جديداً ومشاهد جديدة، أي أنّ الموضوعات تتجدد وتتغير بمرور الزمان وباختلاف المكان. ويترتب على ذلك تغيير في الأدلة الشرعية لأحكامها، سواء كانت هذه الموضوعات قديمة أو متجددة أو جديدة. أمّا القول بتغيّر الأحكام نتيجة ضغوط الزمان والمكان فهو قول غير صحيح تماماً، فالأحكام الثابتة تبقى ثابتة والأحكام المتغيرة تتغير بتغير موضوعاتها أو بتغير فهم الفقيه لها أو بتغير أدلتها الشرعية.