د. علي المؤمن ||
حين أطلق عالم الإجتماع الكندي "ماك موهان" اصطلاح ((القرية العالمية)) أو ((العالم .. قرية)) في نهاية ستينات القرن الماضي، كان القليلون يدركون عمق نظرته المستقبلية، فقد وجد "موهان" أن ثورة الاتصالات أو الطفرة التي أحدثها علم وسائل الاتصال، سواء ما يتعلق بتكنولوجيا الإعلام والدعاية أو تكنولوجيا الاتصالات، ستحوِّل هذا العالم إلى قرية واحدة؛ بالنظر لانعدام حدود الزمان والمكان بين مكونات ومفردات العالم.
وعليه، يمكن القول أنّ (قريَنَة) العالم هو أول تجلي لواقع العولمة الشاملة، والتي ظهر مفهومها في نهايات الثمانينات من القرن الماضي.
وبغض النظر عن الأهداف التي ينطوي عليها مفهوم (( العالم بات قرية))، ولا سيما ما يتعلق بتوحيد الفضاء الثقافي لهذه القرية وهيمنة ثقافة الأقوياء (أصحاب تكنولوجيا الإعلام والاتصالات) على سكان القرية الآخرين (شعوب العالم)؛ فإن قاعدة هذا المفهوم ترتبط بالمجال التقاني للقرية، وهو مجال تطوّر بسرعة هائلة في عقدي الثمانينات والتسعينات، حتى أصبحت نبوءة "موهان" واقعاً قائماً، وإن رفضنا ـ ومعنا معظم أمم الأرض ـ الأهداف الاستكبارية والتسلطية والآيديولوجية لهذا الواقع، الذي يسعى أصحاب سلطة ما بعد التكنولوجيا او سلطة علوم المستقبل لفرض أنفسهم ـ بقوة العلم ـ سادةً لهذه القرية، وباقي سكانها أتباعاً لتأثيرات أولئك الأسياد الأقوياء.
إنه واقع مرعب حقاً! سنبقى نتعامل معه بردود الفعل؛ لأننا كعرب ومسلمين وعالم ثالثيين وشعوب نامية، لا نمتلك الفعل الذي يسمح لنا بامتلاك رؤية عن المستقبل، بل ورؤية عن الحاضر وما ستسفر عنه معطيات الحاضر من مستقبل ضبابي؛ بل ولا نمتلك الأدوات الفاعلة التي تجعلنا بمعزل عن تأثيرات مفهوم «القرية العالمية»؛ لأن العزلة في هذه القرية أمر مستحيل، فسكانها واقعون تحت طائلة التأثير والتأثّر المتبادلين.
أما الواقع القادم فهو الأكثر رعباً، و يتمثل في زوال حقيقة (( العالم.. قرية)) خلال الثلاثين عاماً القادمة، إذ ستتحول «القرية العالمية» إلى «بيت عالمي» بحلول العام 2050م، وسيصبح العالم بيتاً يسكن تحت سقفه وبين جدرانه جميع سكان الكرة الأرضية.
سيحتوي «البيت العالمي» على مجموعة كبيرة من الغرف والصالات، متباينة في حجمها وتأثيثها وإمكاناتها، وسيجلس كل شعب ( تحديداً الشعوب والأمم التي ستحافظ على هويتها و وجودها ) في غرفة شبه مستقلة، ليس لها أبواب، ولا يزيد ارتفاع أسوارها الإفتراضية عن متر واحد فقط. و نقصد بالاستقلال هنا وجود حدود الجغرافيا الإدارية فقط.
سيكون الأقوياء، أي أصحاب سلطة المال والعلم والتكنولوجيا، هم أسياد البيت، ويعيشون في صالات فارهة مجهزة بكل وسائل الراحة والرفاه. وسيكون الضعفاء، وهم غالبية سكان البيت، في حالات متباينة، فقسم منهم يعيشون كالأشباح في الكهوف، وآخرون في رفاه نسبي، لكنه ظاهري، إذ أن جميع الضعفاء يشتركون في عدم القدرة على تحريك رأس المال إلاّ بإرادة الأقوياء، وعدم القدرة على امتلاك التكنولوجيا المتطورة التي تجعلهم متساوين في التأثير مع الأقوياء.
وبما أن جميع سكان البيت يعيشون تحت وطأة التأثير والتأثر المتبادلين، فأن التأثير الحقيقي سيكون للأقوياء (أسياد البيت)، رغم أن سكان كل غرفة يسمعون حتى همس سكان الغرف الأخرى، ويرون كل حركة داخلها.
ويهمنا هنا أن نطرح التساؤلات التالية: ما الذي أعددناه لمواجهة هذا المشهد؟ وأين موقعنا في معادلة التأثير والتأثر المتبادلين؟ وما هو مصير هويتنا ودورنا الحضاري؟ وكيف سنحافظ على أمتنا التي نطمح أن تكون عائلة واحدة تسكن غرفة واحدة؟
إنها ليست رواية من روايات "جول فيرن"، ولا نبوءة من نبوءات "نوسترداموس"، إنها المصير الذي ستفرزه معطيات الحاضر كحقائق مستقبلية في إطار المعادلات التي تقررها الدراسات المستقبلية بصيغتها العلمية، فضلاً عن معادلات فلسفة التاريخ والسنن الإلهية.
https://telegram.me/buratha