أسعد تركي سواري
مُفَكّر استراتيجي
* المقال عبارة عن محاضرة ألقاها الكاتب لمناسبة ذكرى أربعينية الإمام الحسين (ع) في جامع أهل البيت (ع) في بغداد عام ٢٠٠٦ ، وأضيفت له تساؤلات جديدة في عام ٢٠١٤ ، طرحها أستاذ الفكر الإسلامي في معهد العلمين للدراسات العليا في النجف الأشرف سماحة السيد جعفر عبد الصاحب محسن الحكيم ، وأجاب عليها الكاتب بوصفه طالبا آنذاك في مرحلة الماجستير .
المقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين وعلى أصحابه الأوفياء المخلصين ،
حُبَّاً بمحمد صَلّوا على محمد و آل محمد ...
اللهم صَلّي على محمد و آل محمد وعَجِّلْ فَرَجَهُم و إلْعَنْ عَدوَّهم
بايعوا أمير المؤمنين ثانياً بالصلوات...
جَبِّروا ضِلْعَ الزهراء المكسور ثالثاً بالصلوات ...
شِفاءاً لِكَبِدِ الحسن المسموم رابعاً بالصلوات ...
ضَمِّدوا جراح الحسين و رأسه المرفوع على الرماح خامساً بالصلوات ...
قَبِّلوا كَفَّيْ العباس سادساً بالصلوات ...
إرواءاً لعبد الله الرضيع سابعاً بالصلوات ...
نُصرةً للحوراء وسبايا الحسين ثامناً بالصلوات ...
ترحيباً بالقائد المعصوم المنقذ المنتظِر بأعلى أصواتكم بالصلوات ...
السلام على الحسين وعلى الحوراء نصر الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى إخوان الحسين وعلى عُشّاق الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مُهَجهم دونه ، السلام عليكم أيّها الأحبَّة ورحمة الله وبركاته :
ليس لي ولا لأمثالي الرُقيّ إلى هذا المقام السامي وهو الحديث عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، إذ إن الحديث عن المرء يستلزم الإحاطة وأنّى لنا الإحاطة بالمعصومين ، ولولا الواجب من ذِكْرِهم لنصرة ولايتهم ، ووفاءاً لتضحياتهم وفِكرهم ، لَنَزَّهْتُهُم عن ذِكري إيّاهم ، على أنَ ذِكْري لهم بقدري لا بقدرِهم ، ومِنْ نِعَمِ الله علينا جريان ذِكرهم المُقَدَّس على ألْسِنَتِنا القاصرة المُقَصِّرة ،...
أيُّها الأحِبَّة : أُثيرَتْ و لا زالت تُثار التساؤلات حول الملحمة الحسينية الخالدة ومنها :
التساؤل الأول : ما هو الموجِبْ الحقيقي الذي دعا الإمام الحسين (ع) إلى الإقدام على نهضته المباركة ؟ .
طَرَحَ المؤرخون ثلاثة تفسيرات رئيسة للإجابة على هذا التساؤل ولكن لم تكن تلك التفسيرات مُنْصِفة وموضوعية بل كانت تحمل بين طَيَّاتها دوافع سياسية مُغْرِضة الهدف منها تشويه الصورة الناصعة للثورة الحسينية الخالدة والتعتيم على أبعادها الإنسانية ، وهذه التفسيرات الثلاث هي :
١ – التفسير القبائلي ( العشائري ) :
يرى أصحاب هذا التفسير أنَّ أبا سفيان هو من قاد معسكر الكفر ضد رسالة الإسلام التي قادها رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وجاء بعد ذلك معاوية بن أبي سفيان الذي قاد الانحراف وخرج على سلطان زمانه والحاكم الشرعي للأمة المتمثِّل بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، ثم جاء بعد ذلك يزيد بن معاوية ليكمل مسيرة الكفر والانحراف التي قادها جدُّه وأبوه ليجابه المسيرة الإصلاحية التي قادها الإمام الحسين (ع) ، فبدا الأمر وكأن أساس الصراع القائم هو صراعٌ بين قبيلتين ، هما قبيلة بني هاشم وقبيلة بني أميَّة ، وليس صراعاً بين معسكري الكفر والإيمان ، وبين الحق والباطل .
٢ – التفسير السياسي :
يرى أنصارُ هذا التفسير أنَّ الإمام الحسين (ع) إنما تحرَّكَ لاستلام زمام الحُكم في الكوفة ، حتى قال الكثير من المتخاذلين عن نُصرة الإمام الحسين (ع) في تلك الفترة ما نصُّه (مالَنا والتنازع بين السلاطين) ، بمعنى أنَّ هذه الحرب هي مجرّد صراع بين أطراف سياسية متنازعة هدفها الأساس استلام زمام الحُكم السياسي وحسب .
٣ – التفسير الغَيْبي :
يرى أتباعُ هذا التفسير أنَّ الإمام الحسين (ع) لديه أمرٌ إلهي كان قد أوصاه به جَدّه رسول الله صلوات الله عليه وآله بالخروج إلى كربلاء ، والقائلون بهذا التفسير يستشهدون ويستدلّون ببعض النصوص التي وردت عن الإمام الحسين (ع) قبل خروجه إلى كربلاء وهو في المدينة حينما سأله بعض إخوته وأصحابه كمحمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس فقالوا له إنَّ أهل الكوفة قد غدروا بأبيك وأخيك وإنْ كُنْتَ عازماً فما شأنُ العيال والأطفال فأجابهم (ع) : (( شاء الله أنْ يراني مقتولاً وشاء الله أنْ يراهُنَّ سبايا )) أو كقوله (ع) : (( خِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه ، وكأنَّ أوصالي تُقًطِّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء )) ، وحقيقة الأمر أنَّ هذا التفسير لا ينفع المجتمع الإسلامي ولا الإنسانية بشئ ، إذْ أنَّ معرفة الإمام للنتيجة الحتمية لنهضته المباركة إنما كانت علاقة خاصة بينه وبين ربِّه كإمام معصوم وخليفة لرسول الله صلوات الله عليه وآله ، ولا تنفع المجتمع بشئ ولا يمكن أنْ تفسَّر الموجب الحقيقي الذي دعا الإمام الحسين (ع) أنْ يُجَسِّد هذه الحضارة الإسلامية العملاقة والملحمة الإنسانية الخالدة ، إذْ إنَّ معرفة الإمام مُسبقاً باستشهاده خلال هذا التحرّك والمعرفة المسبقة بما سيجري عليه وعلى إخوته وأولاده وعياله وأصحابه ، إنما يُسلِّط الضوء على عظمة التضحية التي أقدم عليها الإمام في سبيل الإسلام والإنسانية والأمَّة مع علمه المسبق بالنتائج .
ولمعرفة الموجب الحقيقي لنهضة الإمام الحسين (ع) ، يمكن تركيز الإجابة بثلاث موجبات ، أطرحها على شكل ثلاث مستويات :
١ – المستوى الأول ( الموجب الأول ) :
يَتَمَثَّل الموجبُ الأول بصُلْح الإمام الحسن (ع) ، إذْ لم يتبقى من بنود صُلْح الإمام الحسن (ع) مع معاوية بن أبي سفيان ، سوى البند الأخير الذي نَصَّ على أنَّ الخلافة الدنيوية تكون بعد رحيل معاوية إلى الإمام الحسن (ع) فإنْ لم يكن على قيد الحياة حينها ، فتؤولُ للإمام الحسين (ع) ، ولَمَّا مات معاوية وتَسَلَّم يزيد مقاليد الخلافة الدنيوية بعده وبدأ يُرسل مَنْ يأخذ له البيعة من الولايات والأمصار ، يكون بذلك قَد دَقَّ المسمار الأخير في نعش الصُلح ، وَلمّا كانت الأمَّة تعيش حالة الضبابية وعدم الوضوح في الرؤيا في زمن معاوية بن أبي سفيان ، وخصوصاً في الفترة الأولى لحكمه ، بينما في أواخر حُكم معاوية وبداية حكم يزيد ، كانت لدى الأمَّة رؤية واضحة وبصيرة نافذة تستطيع من خلالها أنْ تُمَيِّز بين معسكر الكفر والإيمان ، وبين الحق والباطل ، إلا أنها كانت مسلوبة الإرادة وتحتاج إلى صوتٍ مُدَوِّي يَهزُّ ضميرها لتنتفض ضد الباطل ، فكانت ثورة الحسين (ع) هي ذلك الصوت الإلهي الهادر الذي أقَضَّ مضاجع الطغاة وضَلَّ نبراساً لكل الأحرار والثائرين على مدى التأريخ لتنهل منه الإنسانية بأسرها على مختلف مشاربها وانتماءاتها الفكرية والعقائدية ، وبذلك فإنَّ قيام الإمام الحسين (ع) بثورته الخالدة في هذا الوقت بالتحديد ، إنما كان التزاماً منه بآخر بند من بنود صلح أخيه الإمام الحسن (ع) ، فالمؤمنون عند شروطهم وعهودهم ومواثيقهم فكيف بأئمة المؤمنين ، ولكي لا تبقى أية ذريعة للأمة للوقوف ضد الانحراف والظلم ، وليسقط آخر قناع من أقنعة الباطل فينقشع الظلم والظلام ، لتشرق شمس الحق والعدل الإلهي .
٢ – المستوى الثاني ( الموجب الثاني ) :
يتجلّى الموجبُ الثاني برسائل أهل العراق التي بلغت ثمانية عشر ألف رسالة التي دعته لتنضوي تحت قيادته لمجابهة الانحراف والظلم الذي قادته السلطات الأموية ، والحسين هو بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي لم يتصدَّى بعد إقصائه عن موقعه الإلهي الذي نصَّتْ عليه السماء إلا بعد أنْ زحفت إليه الأُمَّة طالبة الإنقاذ ، حينها قال (ع) : (( لولا حضور الحاضر وقيام الحُجَّة بوجود الناصر ، ولولا أنْ تداككتم عليَّ دكَّا دَكَّا لألقَيْتُ حابلها على غاربها ، ... ألا إنَّ خَصْفَ نَعلي هذا أحَبُّ إلَيَّ مِنْ إمْرَتِكُم إلا أنْ أُقيم حَقَّاً أو أدفع باطلاً )) ، وبذلك يكون أهل العراق قد ألزموا الإمام الحسين (ع) الحُجَّة بإرسالهم تلك الرسائل والعهود والمواثيق ، فلقد ورد عن أئمَّة أهل البيت صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ((نحن قومُ إذا دُعوا لَبّوا)).
٣ – المستوى الثالث ( الموجب الثالث ) :
يتجسَّدُ الموجبُ الثالث بإصرار الإمام الحسين (ع) على إظهار الوجه الناصع والحقيقي للإسلام المحمدي الأصيل الذي طَمس معالمه الحُكم الأمويّ ، لأنَّه لو استمرَّت الإنسانية على معرفة وجهاً واحداً للإسلام وهو المتمثّل بالسلطات الظالمة التي تعاقبت وتسلطَّت على رقاب الإنسانية قسراً وقهراً كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية ، لسقط الإسلام بنظر الإنسانية بعد سقوط الدولة العثمانية ، إلا أنَّ الإمام الحسين (ع) بثورته الخالدة والثورات المتلاحقة لأصحابه وأتباعه ، قد أظهرت للإنسانية وبشكل جَليّ وجود إسلامٍ آخر غُيِّبَ عن الساحة الإنسانية ، وهو ما تَجَلَّت معالمه بالمبادئ التي جَسَّدتها الملحمة الحسينية المباركة .
التساؤل الثاني : مَنْ قَتَلَ الإمام الحسين (ع) ؟ .
يُجيب البعض بأنَّ شِمر بن ذي الجوشن هو مَن قتل الإمام الحسين (ع) ، بوصفه هو مَنْ حَزَّ رأسه المُقَدَّس ، ويَصْدُق هذا الجواب ، ويجيب البعض بأنَّ عمر بن سعد هو مَنْ قتل الإمام الحسين (ع) ، بوصفه القائد الميداني المباشر الذي قاد جيش يزيد في واقعة الطَفّ ، ويَصدُق هذا الجواب ، ويُجيب البعض بأنَّ عبيد الله بن زياد هو مَنْ قَتل الإمام الحسين (ع) ، بوصفه مُمَثِّل رأس السلطة الأمويَّة والحاكم الفدرالي لولاية الكوفة ، الذي أصدر الأوامر إلى عمر بن سعد للتوجّه بالجيش لقتال الإمام الحسين (ع) ، وكذلك يَصدُق هذا الجواب ، ويُجيب البعض بأنَّ يزيد بن معاوية ، هو مَنْ قتل الإمام الحسين (ع) ، بوصفه الحاكم السياسي الأول ورأس السلطة الأموية الظالمة ورئيس الدولة ، وكذلك يَصدُق هذا الجواب ، أما المرجع الديني السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (رض) ، فيَطرح رؤيا أخرى للإجابة على هذا التساؤل ، إذْ يرى بأنَّ الدولة البيزنطية هي مَنْ قتلت الإمام الحسين (ع) وذلك عِبرَ عملائها المندسّين في الدولة الأموية ، والتي دفعت بيزيد وزبانيته على الإقدام على هذه الفاجعة الكبرى التي أدمَت قلوب الإنسانية بأسرها ، وكذلك يَصدُق هذا الجواب ، إلا إنَّني أستطيع أنْ أطرح رؤيا أخرى للإجابة على هذا التساؤل ، وهو أنَّ الأُمَّة التي تخاذلتْ عنْ نُصرة الإمام الحسين (ع) هي مَنْ قَتَلَتْ الحسين (ع) حقيقةً ، فإنَّ فرعون لم يَقُل أنا ربُّكم الأعلى إلا بعد أنْ وجد مَنْ يسجد له ويمَجّده ، لأنه وكما ورد في الحكمة والمنطق بأنَّ العِلَّة الفاعلية على الشيء لا تَتم إلا بعد أنْ تتم العِلَّة القابلية على ذلك الشيء ، أي أنَّ القابلية على الاستعباد تسبق الاستعباد ، وببيان آخر ؛ أنَّ الأُمَّة حينما تخاذلت عن نصرة الإمام الحسين صلوات الله عليه ورضخت للظلم والطغيان الأموي تكون بذلك قد أعطت الضوء الأخضر ليزيد وزبانيته للإقدام على قتل الحسين (ع) ، وهيأت الأرض الخصبة لاستعبادها من بعد ذلك ، وأدعم أطروحتي هذه بما ورد في زيارة الحسين (ع) و الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين والواردة في زيارة وارث تحديداً ، إذْ ورد ما نصُّه (( فَلَعَنَ الله أُمَّة قتلتكَ ولعنَ الله أُمَّةً ظلمتك ولعنَ الله أمَّةً سمعت بذلك فرضيت به .......)) ، فهنالك أمَّة قتلت الإمام الحسين (ع) وليس فرداً واحداً أو عدة أفراد وهذه الأُمَّة هي التي تخاذلت عن نصرة الإمام الحسين (ع) وبذلك تكون هي مَنْ قتل الحسين (ع) حقيقةً ، وليس الأمَّة الحاضرة في زمان الحسين (ع) ، وإنما كل أمَّةٍ تتخاذل عن نصرة المنهج الحسيني تكون مصداقاً لقتلة الحسين (ع) .
التساؤل الثالث : لماذا تقام المجالس الحسينية إلى يومنا هذا بعد أنْ مَرَت على الملحمة الحسينية أكثر من أربعة عشر قرن ؟ .
يُمكنُ الاكتفاء بإجابة العلاّمة محسن الأميني (رض) صاحب موسوعة الغدير الذي حينما سُئلَ بهذا السؤال ، أجابهم بقوله : (( لكي لا تُنسى كما نُسِيَت بيعة الغدير )) .
التساؤل الرابع : لماذا تعادل زيارة الإمام الحسين (ع) أكثر من مئتي حجَّة وعمرة وغزوة كمن حَجَّ واعتمر وغزا مع رسول الله صلوات الله عليه وآله ؟ .
أجاب البعض بأن الإمام الحسين (ع) قد ضَحّى بكل ما يملك فيكون مقتضى العدل الإلهي ، أنَّ الله تعالى يمنح الحسين كل ما يملك !!! ، ويمكن أنْ يُشكَلَ على هذه الإجابة بأنَّ الإمام الحسين (ع) قد وهَب ما لا يملك ، فإنما هو فَيْضٌ مِنْ نور الله وقُدسه ، ويمكن الإجابة على هذا التساؤل ، بأنَّ الله تعالى إنما جعل هذه المنزلة العظيمة للإمام الحسين (ع) وهذا الثواب العظيم في زيارته لكي يتسلَّط الضوء على المنهج الإسلامي المحمدي الواقعي والأصيل ، فينجلي الغبار وينزاح الستار وينكشف النقاب عن منظومته الفكريَّة والعقائديَّة والقِيَميَّة التي تجلَّت بالإمام الحسين (ع) وثورته المباركة ، لتتعرَّف الإنسانية بشكل واضح وجليّ على الممثّل الأصيل والمصداق الواقعي للإسلام الكريم ، وعلى الامتداد الطبيعي للنبوة ، والمُجَسّد الواقعي لقيم السماء ، و ليحثّ البارئ عزّ وجل الإنسانية للاهتداء إلى النبع الصافي والنقي لرسالته الخالدة التي تكفل السعادة الأبدية ، ليحيى مَنْ يحيى بعد ذلك عن بيّنة ويهلكُ مَنْ يهلك عنْ بيّنة ، ولكنه مع بالغ الأسف والأسى أننا نرى ونسمع في العصور المتأخرة الكثير من الخرافات والأساطير في بعض الأطروحات التي يقدمها البعض لتفسير وسرد الملحمة الحسينية الخالدة ، فيحاول البعض منهم استدرار الدموع واستقطاب الأنظار ، فيطرحون الكثير من الخرافات التي ستؤثر على مصداقية وقداسة الملحمة الحسينة الخالدة مع مرور الزمن ، بحكم تطور وارتقاء البشرية في وعيها ومعارفها وعلومها ، وبذلك فإنني أرى بأنَّ البعض من أحبّاء الحسين (ع) قد أضَرّوا بالثورة الحسينية أكثر من أعدائه ، لذلك أنصح كل مَنْ يريد أنْ يستقي وينهل من النبع الصافي للملحمة الحسينية المباركة فعليه أنْ يَطَّلع على كتاب ( موسوعة الملحمة الحسينية ) للفيلسوف الشهيد مرتضى مطهَّري (رض) ، وكتابي ( أضواء على ثورة الحسين (ع) ، و(شذرات من فلسفة تأريخ الإمام الحسين (ع )) للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (رض) ، وكتاب (دروس من الثورة الحسينية) للسيد محمود الهاشمي (رض) الذين غربلوا وحقَّقوا ودقَّقوا فأزاحوا كل ما لحِقَ من غبار وتشويه بهذه النهضة المباركة .
التساؤل الخامس : لماذا يخشى الطغاة ويمنعون زيارة الإمام الحسين (ع) ؟ .
طرق مسامعنا بعد سقوط النظام السياسي الصدامي في العراق ، أنَّ عوام الجماهير يتساءلون مستغربين ، عن سبب منعهم من زيارة الإمام الحسين (ع) ، إذْ مارسوا شعائر الزيارة بحريّة وسلميَّة بعد زوال النظام الحاكم ، ولم تؤثر إقامة مراسيم الزيارة والشعائر الحسينية على إستقرار النظام السياسي القائم ، وجواب ذلك أنَّ الطغاة لم يكونوا من السذاجة بمكان إلى الدرجة التي لا يفقهون فيها معنى زيارة الحسين (ع) ، فمعنى أنْ تذهب إلى الحسين (ع) ، أنَّه يصنع منك ثائراً ، والنظام الحاكم يعرف بأنك حينما تذهب إلى الإمام الحسين (ع) عارفاً بحقّه فإنك ستستلهم وتستمد كل قيم الكبرياء والشموخ والعزة والإباء والإيثار والشجاعة والتضحية ورفض الظلم والطغيان من ذلك المثوى الطاهر ، وذلك سيُحَفّزُ الجماهير ويقودها إلى الثورة ضد النظام السياسي الظالم .
التساؤل السادس : منْ هو المعني بتثبيت معايير الشرعية وتحديد مصاديق الشعائر الحسينية؟
يعتقد المسلمون الإماميَّة الاثنا عشرية إنه في حالة غياب الإمام المعصوم (ع) تكون المرجعية الدينية الجامعة للشرائط هي التي تمثل النيابة العامة للمعصوم في غيبته ، وهي المسؤولة عن وضع المعايير الشرعية للموضوعات وتحديد مصاديق الشعائر الإسلاميَّة الحسينيَّة .
التساؤل السابع : هل الإضرار بالنفس يوجب تجميد الشعيرة الحسينية ؟ .
لا يُمكن القول بأنَّ كل إضرار بالنفس محكومٌ بالتحريم الشرعيّ ، ويستدعي تجميد الشعيرة ، فمَنْ أُقيمت من أجله الشعيرة كان قد أقدم على الموت مع سبق الإصرار والتصميم ، وتحمَّل أعلى درجات الإضرار بالنفس في سبيل عقيدته وذلك بقوله (ع) : (( كأنَّ بأوصالي تقطعها الفلوات بين النواويس وكربلاء )) وقوله (ع) للمعترضين على خروجه برفقة النساء من أهل بيته (( شاء الله أنْ يراني قتيلا وأنْ يراهنَّ سبايا )) ، والمِلاكُ في التحريم والإباحة والوجوب هو مقدار ما تُحقّقه تلك الشعائر من مصالح عليا للإسلام ، أو مقدار ما تُسَبِّبه تلك الشعائر للإسلام من ضَرَرٍ وانتهاك لحرمته .
التساؤل الثامن : هل السخرية من الشعائر الحسينية يستلزم منعها ؟
يروي لنا التاريخ بأَّنه لطالما كانت السخرية والاستهزاء منهجاً للطغاة والمستكبرين في مواجهة الأنبياء والمصلحين ، و يُصوّر لنا القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ))( الذاريات : 52 - 54 ) ، ويتضح من الآية الأخيرة الأمر الإلهي إلى نبيّه الأعظم (ص) بتجاهل هذه السخرية والاستهزاء ، ولذا فالسخرية من الشعيرة لا تستلزم منعها ، ما لم تؤدي إلى هتك مضمون الشعيرة الحسينية وقدسيّتها ورمزها .
التساؤل التاسع : هل إضفاء صفة الخرافة على بعض الشعائر الحسينية يستدعي تجميدها ؟ .
تُعَرَّفُ الخرافة بأنَّها الاعتقاد أو الفكرة القائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي أو منطقي مبني على العلم والمعرفة ، وترتبط الخرافات بفلكلور الشعوب ، إذْ أن الخرافة عادة ما تمثل إرثًا تاريخيًا تتناقله الأجيال ، وهو معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. ، والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو اجتماعية ، أما الشعائر الحسينية فإنَّها منبثقة من واقعة ملحمية إنسانية ولها مرجعية تخصّصية تشرف عليها عبر الأجيال كانت و لازالت تمثّل الحصن الواقي لها من الخرافات ، فيصبح اقتران الخرافة بالشعيرة الحسينية سالبة بانتفاء الموضوع ، كما يعبرون في علم المنطق .
التساؤل العاشر : هل إن الشعائر الحسينية واجبة أم مستحبة ؟ .
يؤكّدُ الفقهاء بأنَّ الشعائر الحسينية من المستحبات الأكيدة في الشريعة بالعنوان الأولي ، إذْ جاء في قول الإمام الصادق (ع)(( أحيوا أمرنا رحم الله مَنْ أحيا أمرنا )) ، ولكنَّها قد تكون واجبة ، كما أنها قد تكون محرّمة ، وذلك بالعنوان الثانوي أو بالحكم الولائي ، إذ يعتمد ذلك على المصالح العليا للدين والمذهب التي تحدّدها وتقدرها المرجعية الدينية المتخصصة ، كأنْ يلحظ الفقيه جانب التقية أو غيرها من الملاكات .
التساؤل الحادي عشر : هل أنَّ النقاش الدائر حول الشعائر الحسينية تخصّصيّ أم ثقافيّ ؟ وإذا كان تخصّصيّاً ، فمن هي مرجعية هذا التخصّص ؟ أما إذا كان ثقافيّاً فما هي دائرته ومساحاته؟.
يمكنُ القول بأنَّ النقاش الدائر حول الشعائر الحسينية هو نقاش تخصّصي تكون فيه الكلمة الفصل للمرجعية الأساس التي تحدد معاييره ومصاديقه ، والمتمثلة بالمرجعية الدينية الجامعة للشرائط ، وأيّ عناوين أخرى تكون متطفلة على التخصّص وتحاول مصادرة صلاحيات المرجعية المتخصصة بغير وجه حق ، حتى وإنْ كانت هذه العناوين قد تبدو هي المسرح الرئيس الذي تتحرك عليها ومن خلالها هذه الشعائر ، وذلك امتثالا لقوله تعالى : (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ))( الأحزاب : 36 ) ) وهذا الحكم شاملُ للمعصوم (ع) ونوّابه في غيبته ، بحكم وحدة المِلاك .
التساؤل الثاني عشر : هل يمتلك الفكر الإسلامي في عقائده وتعاليمه خطابان أم خطاب واحد؟.
يمكن لنا أنْ نتلمّس من أحاديث المعصوم (ع) وجود أكثر من خطاب في الفكر الإسلامي ، وذلك في ما يروى عن النبي الأعظم (ص وآله) أنه قال : (( نحن معاشر الأنبياء أُمِرنا أنْ نكلّم الناس على قدر عقولهم )) ، وما ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله : (( لكلّ مقامٍ مقال )) ، فضلا عن الأجوبة العلمية والفكرية والفقهية التي كان الأئمة المعصومون يجيبون بها على مختلف التيارات الفكرية والعقائدية كلّ بحسب فهمه وطاقة استيعابه ، وبحسب البديهيّات التي يؤمن بها الآخر ، وهذا ما ينبغي مراعاته عند عرض الثورة الحسينية الخالدة على المجتمعات الإنسانية المتنوعة ، إذ ينبغي لمن يتصدى لعرض الثورة الحسينية في الدائرة الإسلامية الإمامية أن يلحظ الهوية الخاصة للمسلمين الإمامية ، أما عند عرضها في الدائرة الإسلامية العامة ، فيوجب عليه مراعاة الثقافة والثوابت الإسلامية العامة ، فضلا عن عرض الثورة الحسينية في المجتمعات غير الإسلامية ، إذ يجب فيها مراعاة المنظومة الفكرية والقيمية والعقائدية والحضارية للحضارات المعاصرة .
الخاتمة :
أضحى الإمام الحسين (ع) مناراً للأحرار والثائرين في مواجهة الظلم والجبروت والطغيان ، إذْ أيقنَ الأحرار بعد ثورة الحسين (ع) بأنَّ الطغاة قد يستطيعون قتلهم ، ولكنهم لن يستطيعوا هزيمتهم وكسر إرادتهم ،
ويستطيع الثوّار مقاومة غزو جيوش الظالمين وأجهزتهم القمعيَّة ، ولكن الطغاة عاجزون عن مقارعة الفكر الإسلاميّ المحمديّ الأصيل الذي يتناغم مع الفطرة الإنسانية ويرتقي بها ،...
وإلى الرأس المُقَدَّس الذي رفعوه على الرماح فكان حَيَّاً ومَيّتاً أعلى رؤوسهمُ، إلى ثأر الله وخلود دينه ، أقول :
والعصر والنونِ والقلم وما يسطرونِ ...
لولا أبا الأحرار ما بقى ليَ ديني ...
يا أستار الكعبة وحِبْرَ القُرآنِ ...
أنتَ في الإسلام كالقلبِ والوتينِ ...
أنت مع الزهراء كروضةٍ بجنانِ ...
أنتَ مع الحسنِ كالعيْنِ والعيْنِ ...
أنتَ مع الكرار كمسجدٍ وآذانِ ...
أنتَ مع المصطفى كسفينةٍ ورُبّانِ ...
أنتَ إلى الله كعاشقٍ لولهانِ ...
دمُك َسِراجُ الله وصوتُ الثائرينِ ...
رضيعُكَ أرْضعَ الخُلْدَ للأديانِ ...
سيدي المُفَدّى بالأرواح والأهلين ...
تُقَدِّمُ الأُضْحيات بالإخوانِ والبنينِ ...
مولايَ ما أبقَيبْتَ لنا مِنْ جزاءٍ بإحسانِ ...
وكأنَّ القلوب تنبض حُسَيْنٌ حُسَيْنِ ...
نسألُ الله العلي القدير أنْ يوحّد هذه الأمَّة تحت راية محمد والصفوة من آله المعصومين وأصحابه المخلصين ، صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ، وأنْ يُلْهمنا ويرشدنا لكل ما يُعزّ الإسلام والإنسانية والأمَّة .
https://telegram.me/buratha