الدكتور أحمد البهادلي
لقد احتفت العقلانية بجهودها الفكرية طويلا في التّنظير لما هو غير مرئي واعتقادي وأخلاقي وغير ذلك، لكن سرعان ما أصبح التّحول الذي جاءت به الانوارية بمنطقها الجديد (عصر العقلانية)[1] Age of Reason): يشير إلى مضار تلك العقلانية القديمة وأنها مصدر(الدّمار والحروب)، وعدم فهم الواقع بشكل يتماشى واحتياجات الفرد، بل سعت إلى إقصائه، أو أنها اليوم لا يمكنها أن تعدو أكثر من كونها حاجزا أوليا لتأخير البشرية قرونا طويلة، لتأكيدها الانتماء إلى السّلطات (الأخلاقية، والدّينية، والسّياسية، والإجتماعية وغير ذلك)، وما هذا سوى نمط من اللّاعقلانية فيها، بحسب أحكام الحداثة أو الانوارية، والمنطق الجديد الذي اتصف بعقلانيته على الرّغم من وجود التّحرر في كل شيء عند التّفكير.
والغريب أن هذه العقلانية الحداثوية كانت متخبطة إلى ابعد مستويات العقلانية، وهنا لا بد للعقل من نقد لنفسه، وكأنها أوصلت الإنسان بهذا التّحرر وهو خال من كل إنتماء، إلى تغيب للعقل ذاته في بنية الفكر أو حتى في بنية الإبداع. ثم سرعان ما تحولت هذه العقلانية الجديدة إلى نمطية تقليدية، إزاء ما جاءت به المعلوماتية وما قدمته طروحات العولمة وأفكار حقوق الإنسان والحيوان وحقوق الملكية الفكرية وغير ذلك مما قدمته البعدية (ما بعد الحداثة) في توالي الحدوث والتّعاقب، وهكذا تستمر بنية(الجدل) على الرّغم من كونها سقراطية المنشأ في بنية التّحولات من حال إلى حال في أستراتيج العقلانية ذاتها، حتى أصبح لكل مرحلة زمنية عقلانيتها التي تمثلها.
وبغض النظر عمّا أحدثه التّسارع والنّمو التّقني من الخلخلة بين ما هو واقعي وبين ما هو افتراضي، فهناك إشارات فاعلة لهيمنة التّقنية على الإنسان، خاصة بعد أن ساد مفهوم أنسنه التّقنية، وظهور برامج الذّكاء الصّناعي، لتجاوز احتمالات الوقوع في الخطأ، كما كان معهوداً في أنظمة العقلانية السابقة، وبالفعل فقد قامت تجارب تقنية عديدة لإعادة إنتاج الكثير من الأعمال الفنية خاصة تلك التي ترتبط بعمليات النّسخ أو المحاكاة، وهنا ما هو دور الفنان تحديدا في العملية الإبداعية إن تغلبت عليه التّقنية في تنفيذ المشاريع الفنية المعاصرة؟ وهل سيتحول إلى مبرمج يغذي الآلة؟ وهل سيصبح الخطاب الإبداعي المهيمن حينها خطابا تهيمن عليه لغة البرمجة؟.
أرى أننا مقبلون على نهايات كثيرة منها نهاية الفنان وبديله(الآلة) في الأداء، ونهاية اللّغة والثرثرة وبديلها(لغة البرمجة) في التّداول، ونهاية العمليات الإبداعية المادية الملموسة وبديلها(العملية الإبداعية الافتراضية) في منطق الحضور. وهنا نجد العقلانية الأخيرة تركب رحلة التّناقض مرة أخرى فهي بالوقت الذي تسعى فيه إلى تحرر الإنسان، واستحصالها لحقوقه نجدها تقوم بإزاحته من خلال تفعيلها لإنسانها الافتراضي البديل!!، ذلك الذي يحاكي الإنسان الواقعي إلا انه بجسد آلي وبعقل مبرمج.
لقد كشف المخرج السّينمائي (أليكس بروياس)، في فيلمه(أنا آلي: I, Robot)، هو فيلم أميركي صدر عام (2004)، بطولة الفنان(ويل سميث: Will Smith)، عن نوع من التّطور يصيب الأجهزة التّقنية من جراء ما بها من تفاعل برمجي، يمكنها من تشغيل ذواتها بذاتها، وفقاً لدراسات وبحوث معاصرة قد استند إليها المخرج في تنفيذه لهذا الفيلم الافتراضي فائق الإبداع.
وهنا أجد أن تنبيهات المفكر الألماني(هيدجر: M.Heidegger) قد جاءت ناقصة أو لنقل أنها تؤكد هيمنة العقلانية لفكرة الاهتمام بالكائن، بالوقت الذي تكشف عنه أفعال البعدية الأخيرة او المعاصرة بأنها تبغي تأسيس أنظمة تقنية يصرع فيها الكائن ويضمحل حضوره فيها، بل وهي كعقلانية لا تفكر إلا في نفسها، فـ(هيدجر) ” ينتقد الحياة الحديثة باعتبارها حياة يستثمر فيها الإنسان مجموعة “أصنام” هي المال، والجمهور، والأنا، والأداة التّقنية. وهي حياة تتسم بأفول المقدس المتعالي والحضور البديل للمقدس المتداني، وبانتهاك واستنهاك الأرض، وقطعنة (من القطيع) الإنساني، وانتشار السّطحية والتّفاهة والمعيار الكمي؛ كما تتسم بالتيه في صحراء العدمية التي لا تعود فقط إلى انحطاط القيم العليا كما تصور نيتشه، بل إلى نسيان الكينونة والاهتمام فقط بالكائن”[2].
كما أنه تحدث عن هيمنة العقلانية التقنية الجديدة على كل مظاهر الحياة، واعتبار الذّات، أو بقوله ما كانت تعرف بـ(ميتافيزيقا الذّات)، بأنها محض أوهام، وأن أساس العالم ومقياسه الوحيد، هوهيمنة التّكنولوجيا، والتي تعد عنده نوعا من الاستكمال للمشروع الحداثي، من جهة تعظيمها لأحكام الإنسان وسيطرته على الطّبيعة، ومن ثم فهي ليست سوى استمرار للميتافيزيقا الغربية وكمالها على الأرض، حيث التّنظيم التّكنولوجي للأرض هو الصّيغة النّاجزة للميتافيزيقا، فضلاً عن النّظر للكائنات كما لو كانت أرقاما تدار إدارة بيروقراطية، وعنى بها الافتراضات الانطولوجية التي تتحكم بالتّصورات النّظرية[3].
ترى هل تنبه هيدجر فعلا إلى فكرة الإنسان البديل والجسد البديل؟ بوصفه لحظة قطيعة حاسمة بين العقل المفكر بدم ولحم وبين العقل المفكر بالبرمجة والتقنية، هذا الذي تسعى إلى توفره معطيات العقلانية الجديدة؟. أم أنه يرى (أي هيدجر)” أن كل التّراث الفكري الغربي، وبخاصة الميتافيزيقي أو الفلسفي منه، هو تعبير عن محاولة الذّاتية الإنسانية للسيطرة على الواقع في كليته، وذلك ابتداء من عقل الأنوار إلى قيم الدّيمقراطية إلى النّزعة الكونية، إلى العلوم والتّقنيات، إلى النّزعة الإنسانية، إلى تنظيمات تشكل الدّولة والحق. فهذه كلها أعراض للعدمية يتعين اتخاذ مسافة كافية منها”[4]، فهو ومع أنه يفرد للتقنية مكانا متميزا لدرجة أنها تبدو وكأنها هي ماهية الحداثة ذاتها، وبامتداد متصل. إلا أن التّقنية عنده ليست سوى تطبيق عملي للعلم. والآن هل علينا الحذر من تطبيقات العلم؟.
إن العلم الحديث في جوهره تقني، أي خاضع للمتطلبات والمقتضيات النّظرية والعملية للتقنية. غير انه يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك حين يرى أن ما يميز العلم التّقني هو اندراجه ضمن مشروع كبير هو(المشروع الرّياضي للطبيعة)، وهو المشروع الذي كانت نواته الأولى هي فكرة غاليلو عندما أكد سنة (1623) بأن الطّبيعة تتحدث لغة أرضية ومثالية في الوقت نفسه، فهي تنمو بلغة المثلثات والمربعات والعلاقات الرّياضية[5].
*الهوامش*: ===========
[1]. مصطلح يشير إلى القرن السّابع عشر في الفلسفة الأوروبية.
[2]. محمد سبيلا، دفاعًا عن الحداثة والعقل – هابرماس وأهميته للفكر العربي، الموقع الالكتروني (معابر).
[3]. ينظر:
– Vattimo,G. La Fin de la modernite -Nihilisme et Hermonetique/dans la culture post -moderne, Seuil Paris, 1987, pp. 184-185.
[4]. ينظر:
– Luce Irigaray, The Forgetting of Air in Martin Heidegger, translated by: Mary Beth Mader, Austin, University of Texas Press, 1999, pp. 15 – 16
[5]. ينظر:
Bernard Dupuy. Heidegger et le Dieu inconnu. in Heidegger et la question de Dieu. Ouvrage collectif. Paris, Grasset, 1980. p.52.
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha