دراسات

الخوف من التعبير عن الرأي


 محمد عبد الرضا هادي الساعدي

 

ثلاثمائة وخمسون سنة إلا ستة أيام تفصلنا عن مانيفيستو حرية التفكير والتعبير الذي كتبه الفيلسوف الشهير سبينوزا Spinoza في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة Tractatus theologico-politicus سنة 1670، وإن لم يكن هو الأول في الدفاع عن هذا الحق الإنساني الطبيعي فقد سبقه الكثير، بيد أن طرحه جاء في سياق البحث الفلسفي المهتم بدراسة الدولة، والقوى السياسية، وحقوق المواطن، والدين وحدوده وعلاقته بالسياسة والتفكير الحر.... إلخ وقد تبنت هذا الحق - فيما بعد - جملة من الدساتير الحديثة من دول العالم، والسبق كان للولايات المتحدة الأمريكية في دستورها المعدل عام 1791، حيث نصّت إحدى مواده بعدم السماح لمجلس الشيوخ بسن قانون يحدّ من حرية التعبير 'Congress Shell make no law (...) abridging the freedom of speech '.

وعلى طول هذه المساحة الزمنية الشاسعة كتب ونادى مفكرون وأدباء وناشطون وسياسون من مختلف أنحاء العالم حول ضرورة هذا الحق وإدانة من يصادره أو يضعفه  حتى أصبح في الوقت المعاصر من الموضوعات المقدسة عند الجميع يمينيون ويسارون، ولم تعد ثمة حاجة للدفاع عنه.... إلخ وبخاصة في عصر السوشيال ميديا التي وظُفت بشكل أساس لهذا الغرض، وحتى لُقب مؤسس أكبر منصة تواصلية في العالم Facebook مارك زوكر Mark  Zucker بأنه الكاهن الأكبر لحرية التعبير عن الرأي، وزعم في خطاب له حديث بأنه يريد أن يدافع عن التعريف بحرية التعبير بأكبر قدر ممكن - مع تحفظاتنا الكبيرة على هذا الرجل وعلى منصته وكلمته- إلا أن المرحلة المعاصرة لم تشهد اية مرحلة زمنية في تأريخ البشرية مماثلة لإمكانية التعبير عن الرأي مثلما شهدته المرحلة الحالية، ذلك إذا احتكمنا الى مقايسة : السرعة، الاتساع والسعر، مضافاً إلى رفع يد الرقابة عن ما يطبع والتحفيز العالي، تكتب أينما كنت ليلاً أو نهاراً، وبأي موضوع ومضمون، وبلمسة واحدة يصل إلى المئات، الآلاف، وربما الملايين.

فهل تعيش حرية التعبير حالياً بتعافٍ؟ وهل نتمتع نحن المناصرون لها بممارستها حقيقةً؟ أم أن عوامل قمع حرية التعبير التقليدية لا زالت قائمة، وقد أضيف إليها نفس الوسائل الحديثة المسخرة للتعبير بحرية (تكنولوجيا التواصل الاجتماعي)، حيث امست هي الأخرى تهدد الحرية عينها حسب ما يصرح أكثر من مثقف عالمي؟!

ما يخص الحالة الصحية لحرية التعبير، فهي تعيش في غيبوبة مقلقة، قد يتخللها بين الحين والآخر حالة صحو لا تلبث لثوانٍ معدودة، وما يصدر عنها في قسم كبير هو أمكن وصفه بهذيان الغائب عن الوعي، أو مذكرات لحقب قديمة أيام اليقضة.

وبالنسبة إلى العوامل التقليدية فيقصد بها غياب القانون الذي يحمي المواطن من سطوة أصحاب السلطة، من الإقصاء، التهميش، وخطر فقدان مصادر الرزق فيما لو صححت سلوكاً مهنياً صرفاً بحكم التخصص، التجربة، والإلتزام بمدونة السلوك التي قسمت على تطبيقها، إلى جانب المبادئ الأخلاقية التي تؤمن بها وتسعى لمزاولتها في ميدان محاربة الفساد في الحياة، وفي أضعف الحالات تضطرك الظروف المريضة أن تسكت وأن تخنق ومضات أفكارك وملاحظاتك ومشاعرك من أجل المحافظة على رتابة الإيقاع المعتاد داخل المؤسسة التي تعمل بها، بل وحتى داخل مجموعة صغيرة من أصدقاء شبكات السوشيال ميديا خشية مواجهتهم بما لا يرغبون في قراءته. حيث يلزمك لمواصلة حياتك المهنية والإجتماعية أن تحترف المداجاة والمداهنة والمنافقة وإلا فما أسهل الحصول على العقوبات المؤلمة وقرار الحذف والمغادرة. والاصعب أن قيم تثمين التضحية من أجل المبادىء السامية قد أصابتها لوثة التشويه، فبدلاً من مكافأة أصحاب المواقف الجريئة في التعبير عن الرأي من أجل الصالح العام، يقوم الوسط القريب بمعاقبة نفس المضحين على أعمالهم الجريئة بشتى أساليب العقاب المعنوي والمادي، وما أسهل أن يشغل موقعك أشخاص آخرين فيما لو خسرته بسبب الجهر بالرأي الجريء من قبل أشخاص آليين، وأن تعيش دون أن يشعر الآخرون بحضورك في مجتمع تتعرض فيه القيم الأساسية إلى انتهاك فضيع. وهذا ما يدفعنا بشدة إلى إعادة النظر في قراءة هذا الحق الفطري وتأصيله قانونياً واجتماعياً في حياتنا، فاهمال معالجته سوف يرجعنا إلى محطات مظلمة من تأريخنا البشري.

وعن إسهام وسائل تكنلوجيا التواصل في ضعضعة حرية التعبير فلن نحتاج إلى الإطالة في الاستدلال على هذه المسألة المحسوسة من قبل الكثير، ويكفي أن تجرب بنفسك عبر نقد أداء سياسي مشهور أو شخصية ذات نفوذ اجتماعي بالرغم مما تسببته تلك الشخصية من كوارث إجتماعية، لترى ماذا سوف يحصل لك مما يعرف بالجيوش الإلكترونية من تهديد وشتم واذى، .... لقد كنت مستغرباً من موقف النخب العراقية المرموقة إزاء ما يحدث في العراق من تصدعات على أصعد مختلفة سياسة وأمن وتعليم وأخلاق وثقافة وإقتصاد، فقد نسجت هذه الفئة صمتاً حيال الواقع المتدهور والمتجه بسرعة عالية نحو المجهول، ولم تسجل مواقفاً ذات أثر ملحوظ في إيقاف أو التقليل من خسائر التصدعات المذكورة... ولم أجد تفسيراً مقنعاً إلا في العوامل المشار إليها سلفاً ( المداهنة والمداجات والمنافقة ) من أجل رضا بعض الجهات المسؤولة عن إدارة البلد أو المؤسسات التي يعملون فيها، او ايثار العافية والتفرج عن بعيد، إلا أنني أكتشفت فيما بعد أن الأسباب الحقيقية لا تختصر في العامل النفعي - بالرغم من شهرته - بل في سبب أقوى وأوضح لمن يمارس عملية طرح آراء متناقضة مع المشاريع والشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية البارزة في مجتمعنا، حيث تفتح عليهم أبواب من الشر المنظم، ويتعرضون إلى اساءة تفقدهم الكثير من أرصدة السمعة الرفيعة التي كانوا قد أنفقوا أعمارهم على حصولها، والاقبح من جميع ذلك هو الاعتداء الجسدي عليهم من خلال القتل والتعذيب والملاحقة في الشارع والعمل، وذلك عبر تحريض وسائل نشر حرية التعبير المعاصرة كما يزعم أصحابها، وكأن منصات التواصل الاجتماعي قد خلقت لخنق حرية التعبير ومسخه، فقد تحولت هذه الحرية الثمينة جداً إلى أداة رخيصة لنشر الكراهية وتمجيد المجرمين وإشاعة الفوضى وسحق القيم النبيلة في الحياة بالعكس من غاياتها الإنسانية الشريفة في إحياء الحوار العام بين الشعوب وبين الإنسان نفسه. فمن الضروريات معرفة أن حرية التعبير ليست هدفاً بحد ذاته بقدر ما هي وسيلة لخلق حوار عام، والدعوة المخلصة إلى المشاركة فيه بغية البحث عن الحقيقة واستيلادها من وسط تصادم الأفكار تارة، وتواصلها مع بعضها البعض الآخر تارة أخرى، مع الإلتزام باخلاقية الحوار القاضية حسب قول المفكر البريطاني جون ستيوارت John Stuart بإدانة كل شخص بغض النظر عن الجهة التي يقف فيها إذا كانت طريقة استدلاله تفتقر إلى الصدق، أو كانت تتوسل بالتعصب والخبث والجشع في التعبير، لكننا لا يمكن استخلاص هذه الرذائل لمجرد أن وجهة نظره تتعارض معنا. ان تصادم الآراء هذا سوف لن ينتج عنه فائدة دون المحافظة على أخلاقية الحوار ' . إن حرية التعبير عن الرأي ليست في خطر في الوقت المعاصر بقدر ما أن حرية الحوار نفسها في خطر حسب رأي الفيلسوفة الهولندية دان روفيرس  Daan Roovers و هذا ما يتطلب من أنصار الحرية المشار إليها أن يقفوا بوجه القوى الكبيرة المستفيدة اقتصادياً وسياسياً من المشاركين في تكنلوجيا التواصل عبر الدفع المحموم باتجاه الكذب، والتضليل والاغواء والجريمة والتعصب والغش والعداء، وعدم التعرض إلى قادة الشر ورموز الفساد هنا وهناك من خلال الجيوش المجندة لمهاجمة كل صاحب رأي يمس مصالحهم. ومن الطبيعي أن من دون استعادة الحوار والإلتزام بضمير اخلاقي في التعامل معه، سوف لن يكون ثمة سلم إجتماعي، ولن ترتفع نسب التعليم والوعي والثقافة، ولن تخلق فرص التقارب بين الشعوب، ولن ينحسر الفقر في العالم، ولن تتوقف الهجرات الجماعية بسبب الحروب المدمرة، ولن تنتصر مشاريع الحفاظ على الكوكب الأرضي من المخاطر البيئية وغيرها من مخاطر تتناوشه بين الحين والآخر برمته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                     

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك