قسم ادارة الصراع وبناء السلم الدولي كلية العلوم السياسية – بغداد ـ العدد ٤٧-٤٨ مجلة حوار الفكر
الكتّاب حسب الترتيب الابجدي
آية محمد عبد الرحمن دعاء حسين علي ريام احمد جاسم
زيـــاد علو عطا الله سـجى فاضـــــل محـــــمد عبـــاس راضـــــي رســــــــــن
فرح طلال حسين كرار حسن علي محمد فوزي علي
نور هشام جليل هبة حسن رؤوف
تحرير :
أ.د. علي فارس حميد
عباس راضي العامري
أثار إنهيار نظام الدولة المركزية في العراق في 9 نيسان 2003 مخاوف الدول المركزية المحيطة به وتلك التي ترتبط مع هذه الدول بمصالح ستراتيجية تخشى أن تفقدها مع بزوغ المشروع الديمقراطي التعددي في سماء بغداد. تمثلت تلك المخاوف في شكل الأنظمة المحيطة بالعراق وخوفها من ضرب مرتكزات الدول المركزية الأخرى، ومستقبل وجودها وشكّل التفكير بالعلاقة التي ستحكمها مع هذا الوليد الغريب الذي سيغري مواطنيها بأنظمة شبيهة تفقدها سيطرتها على التوجيه المبرمج لكل مناحي وفعاليات الحياة السياسية والمجتمعية والثقافية في بلدانها.
يحتل العراق من الناحية الجيوسياسية موقعا قل مثيله في المنطقة جعله موضع اهتمام ستراتيجيات كل الدول التي لها مصالح مباشرة أو غير مباشرة فيه وتتمثل اهميته في كونه ملتقى المواصلات التي تربط قارات العالم القديم وفي كونه جسرا يربط شرق العالم وغربه.
كما تكمن أهميته الاقتصادية في كونه الرابط بين آسيا وأفريقيا، فضلاً عن وجود الغاز الطبيعي والنفط، كما يمكن ان يكون العراق ممراً للمشاريع الستراتيجية كالكابل الضوئي ونقل الطاقة من الخليج العربي الى اوربا.
يضاف الى ذلك فان ثنائية (تحقيق المصالح ومنع الاخرين من تحقيق مصالح)، خلق بيئة تصارعية بين دول الجوار الجغرافي والمنطقة صار مسرحها العراق، وتمظهرت بانفلات أمني وتراجع كبير في التنمية وخصوصا البنى التحتية. قابل هذا عدم وجود مشروع واضح ومحدد للقوى السياسية والحكومات المتلاحقة او لنقل وجود برنامج يتعارض مع الاطماع الخارجية في العراق ولم يستطع هذا المشروع ان يكيف بين المصلحة العراقية والمصالح المشروعة للدول الاخرى في العراق، كل ذلك دفع الى ان تنتهج الدول الاخرى ستراتيجية خفية تعتمد الاخلال الأمني والإعاقة الاقتصادية مما أضر بالعراق كثيراً.
ورغم حدة التناقضات التي تحيط بالبيئة الإقليمية وغياب التوافق والإنسجام الإقليمي إلا أن العراق إستطاع إلى حد كبير من التعامل مع المتغيرات الإقليمية بصورة تعكس عدم رغبته بالتورط في تنازع إرادات القوى المركزية في المنطقة وبالشكل الذي يمكنه من الحفاظ على أقل مستوى من التدخل رغم عدم صحة نفي وجوده وقد تجلى ذلك بوضوح أثناء الحرب التي خاضها العراق ضد تنظيم داعش وخروجه فيما بعد منتصراً على التنظيمات الإرهابية وقادراً على فرض مكاسبه التي تحققت على الأرض في سياسات تجبر الخصوم على التعامل معها أو إحترامها على أقل تقدير.
تبحث هذه الدراسة في طبيعة حرب النوايا بين العراق وجيرانه الإقليميين فضلاً عن منطق المصالح الذي يسود إستراتيجيات القوى الكبرى وكيفية التعامل معها وفقاً لإفتراضات النظريات الخاصة بالدراسات الدولية وإدارة الصراع وبناء السلم في مناطق الصراع.
الجوار الإقليمي تمثلات القيم المتناقضة
مايزال الجوار الإقليمي للعراق الهم الذي يشغل معظم تفكير صانع القرار، فممكنات إدارته تجعله يواجه تحديات تتعلق بالإنتقال من التفكير بالمصلحة الوطنية إلى الإنشغال بمصالح جيرانه، لاسيما وغياب التوافق على المنحى الذي يمكن من خلاله بناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الإقليمية، فضعف التوافق الداخلي الذي جاء كنتيجة لتناقض القيم الإقليمية أضعف من إمكانيات التوازن بين التأثير والتأثر لصالح الأخير في هذه العلاقات.
تتجلى أهمية العراق للقوى التي تحيط به وفق رؤى أمنية تتصل بمصالح هذه الدول، فبالنسبة لايران تعد العراق منطقة إستكمال لطريق الربط بين طهران وحزب الله اللبناني مرورا بسوريا ومن ثم تتمكن من تحقيق التوازن في التهديد مع إسرائيل، وحماية حدود مصالح أمنها القومي من خلال نطاق جيوبوليتيكي يعزز من قدرتها على الردع أو التأثير في السياسات الدولية والإقليمية المعارضة لها. أما تركيا فتعد موقع العراق ضمن “المناطق البرية القريبة”، وهي في نطاق تفكيرها الجيوبوليتكي الذي يهدف إلى نقل موقع تركيا في التفاعلات الدولية من دولة هامشية إلى دولة محورية، وبحسب أحمد داود أوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي" فإن حدودها الأمنية في الشرق الأوسط تعد من أهم مناطق تمركز القوة لسلوكها الإستراتيجي.. اما السعودية فيمثل لها العراق خاصرة مهمة يخيفها نفوذ ايران فيه. ولذلك تسعى إلى اعاقة سوق النفط العراقي ومينائه في الخليج العربي لأسباب اقتصادية وريادية تاريخية.
تمتد العلاقة بين العراق من جهة والمملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية وجمهورية تركيا من جهة أخرى على مدى مئات السنين، إذ تبدلت العلاقات وتحولت مساراتها بشكل كبير وفق المتغيرات التي تحكم أطراف المعادلة. غير أن الهواجس الأمنية والتدخل في الشان الداخلي ومحاولة تحريك الأوراق الداخلية للدول، كانت الحاكمة على العلاقة بين العراق وجيرانه الثلاثة. وقد بنيت العلاقات البينية لعقود طويلة على محددات وأسس تتعلق بقضايا أمنية، في مقدمتها ضبط الحدود، والخلافات حول حصص المياه باعتبارها مسألة أمن قومي، فضلاً عن بناء النفوذ الذي لاتستطيع أي دولة من هذه الدول التخلي عنه لصالح الأخرى.
تركيا.. الجار الوارث لامبراطورية الشمال
لايمكن لتركيا أن تتجاهل مكانة العراق في تصورها الأمني لمنطقة الشرق الأوسط فهي تبحث عن مداخل متعددة يمكن أن تجتمع به على حساب الأطراف الأخرى، فما تؤسس له تركيا مع العراق يعد في تصور الآخرين خسارة بالنسبة لهم. وهذا مايميز الكثير من المحطات التي يشترك بها العراق مع تركيا إبتداءاً من حلف بغداد لمنع تمدد الشيوعية إلى الشرق الأوسط ووصولاً إلى العمق الإستراتيجي الذي حاول ربط المنطقة بمشروع تركيا الهادف إلى إبراز مكانة تركيا الحيوية في الشرق الأوسط بعيداً عن السياسات الأوروبية التي تحاول تحجيمها.
ورغم المواقف المتشنجة التي تطرأ بين العراق وتركيا لاسيما في موضوع المياه وعدم إعتراف تركيا بالحقوق المائية للعراق، إلا أنه لاتزال هنالك الكثير من المعطيات التي يمكن أن تسهم في تعزيز علاقاتهما الثنائية خصوصاً والرغبة في إنتهاج سياسات للتعاون الإقتصادي والإستثمار المتبادل تعمل على تغيير مسار الطرفان في سلوكهما تجاه الآخر. وهذا ماتسعى إلى إنتهاجه حكومة السيد عادل عبد المهدي الذي يسعى إلى طمأنة تركيا وتعزيز الثقة معها عن طريق سياسات هادفة إلى التعاون والتنسيق كإسلوب يضمن للطرفين القدرة على إدارة التهديدات والمخاطر التي تواجه الدولتين.
الجمهورية الإيرانية .. رغبة البناء لنظام حليف
تعد الجمهورية الإيرانية في مقدمة الدول التي إستفادت من أحداث عام 2003، فإنتقال العراق بشكله السياسي الجديد يمكّن أن يدعم بناء نظام جديد للتحالفات في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط برمته، وهذا ماجعل إيران تسعى إلى دعم النظام السياسي الناشئ في العراق وتوفر له مايمكّنه من تجاوز التحديات التي يمر بها.
أسهمت الجمهورية الإيرانية بشكل واضح في دعم حكومة الدكتور حيدر العبادي في الحرب على تنظيم داعش الإرهابي وقدمت له المعونة بعد حصول إيران على موافقة العراق بالمشاركة في هذه الحرب، إذ عززت من عنصر المواجهة في قواطع العمليات عن طريق الدعم اللوجستي في أحيان والدعم الإستشاري والمعلوماتي عبر التنسيق الرباعي من جهة أخرى.
ورغم تناقض مصالح الجمهورية الإيرانية مع الكثير من أطراف التحالف الدولي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن العراق إستطاع أن يوازن بشكل كبير بين متطلبات النفوذ ومتطلبات الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، ولعل معركة تلعفر تصور نمطاً مميزاً من هذا التنسيق الذي إنتهى بإنتصار الإرادة العراقية رغم التوتر الذي رافق سير العمليات سواء من تركيا أو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
وقد إنعكس ذلك على سياسة العراق الخارجية تجاه إيران، فعلى الرغم من حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإيرانية إلا أن موقف العراق إتسم بالحذر والنأي عن النفس ويسعى في هذه السياسة ضبط سلوكه إلى القدر الذي لايجعله يفقد أحد حلفائه بسبب ضغوط أزمة التهديدات الأمريكية الإيرانية وإنسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق النووي.
المملكة المتجددة.. طرف التوازن المحتوم
من الصعب على الحكومة العراقية إدارة المصالح المتناقضة بين أطرافه في ظل عدم وجود رؤية واضحة يرافقها أداء معلن من قبل حكومات الدول المجاورة، فغياب المملكة السعودية عن التواجد في العراق وعدم تعاونها معه في بناء أنموذج للشراكة كان له تأثير كبير على توجهات القوى الإقليمية الأخرى ونفوذها في العراق.
كان لإنتصار العراق على تنظيم داعش الإرهابي تأثير كبير على توجهات القوى الإقليمية وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، إذ أسهم ذلك في إدراك القوى لقوة العراق وإصراه على تجاوز التهديدات الأمنية التي تتصل بالتنظيمات الإرهابية، وعلى القوى الإقليمية التعاون مع العراق من أجل إنجاح مشروع الإستقرار الذي تسعى المنطقة للوصول إليه. وقد نتج عن هذا الإدراك إفتتاح سفارة المملكة العربية السعودية في بغداد تلاها الإنفتاح في المستويات الإقتصادية والسياسية والذي تتوج في زيارة رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي إلى الرياض وتوقيع مجموعة من إتفاقيات التعاون الثنائي في مجالات مختلفة.
إن طبيعة التصورات الأمنية للقوى المركزية لجوار العراق لها تأثير كبير على الأمن الوطني العراقي ودور العراق الإقليمي في المنطقة، فحدة الصراع بين هذه القوى يضعف من مقدرة العراق على حماية مصالحه الحيوية فضلاً عن أنه يزيد من حدة التوتر الداخلي بسبب مايفرضه التقارب الجغرافي والديني بين العراق وهذه القوى من آواصر تعكس هذه الصراعات على وضع ودور حكومة بغداد على مستوى الداخل والخارج.
القوى الدولية.. توازن المصالح وتناقض الأدوار
تمثل القوى الدولية بما تحمله من مصالح مصدر القلق الأكبر لمعظم دول المنطقة، فما تتمتع به هذه القوى من نفوذ ومكانة في البيئة الدولية يمنحها القدرة في أن تؤدي وظائف جديدة قادرة من خلالها صياغة أدوار منسجمة مع المصالح التي تستهدفها، فإمكانية هذه القوى على التأثير يضاعف من فرص تحكمها بمشهد التفاعلات وإدارة التوازنات القائمة على النحو الذي يجنبها الصدام الفعلي فيما بينها.
روسيا المترددة.. ستراتيجية ام ارتباك؟
رغم تردد القوى الكبرى في بناء أنموذج ستراتيجي لها في العراق لكن مرحلة ما بعد الانتصار على داعش أرخت لنوع جديد من العلاقة للعراق مع دول المنطقة والعالم دخلت فيها روسيا حليفا ضمن خلية التنسيق الاستخباري التي تضم العراق وروسيا وايران وسوريا، لكنه اكتنف عملها كثير من التردد من الجانب الروسي الذي بدأ بعقد اتفاقات مع اسرائيل، وإقتصار سلوكه الإستراتيجي في مناطق محددة في سوريا تشمل متعده عمقاً ستراتيجياً لها، ومع ذلك فإن مدى قابلية روسيا على صياغة دور يكّون إقتراباً إلى المحور الإيراني مقابل الولايات المتحدة سيبقى أسير التوازن في المصالح الذي تديره الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
تمثل روسيا الإتحادية الطرف الإستراتيجي ذو الأهمية الكبيرة في التوازنات الدولية والتفاعلات التي تجري في منطقة الشرق الأوسط، فقد أدت روسيا وعملت بشكل محوري في إحتواء أزمة البرنامج النووي الإيراني بالتعاون مع بقية أعضاء مجلس الأمن وإستطاعت كذلك أن تؤثر في مستقبل الوضع في سوريا الذي كاد أن ينتقل إلى حكم الجماعات الإرهابية بعد تكوينها مناطق تخضع لحكم تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا. ورغم مساعدتها العراق في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي وإسهاماتها في مجال التنسيق المعلوماتي إلا أن دورها في مجال الأمن الإنساني الذي أصبح أولوية بالنسبة إلى العراق مايزال ضعيفاً وغير واضح رغم رغبة الحكومة العراقية في بناء أنموذج لعلاقة مميزة مع روسيا في هذا المجال.
تمتلك روسيا خبرات تقنية ومعلوماتية في مجال مكافحة الإرهاب والدعم الإستخباري، فضلاً عن أن مكانتها في صناعة الأسلحة يمكن أن تدعم محور الإستعداد والجاهزية الأمنية التي يبحث العراق عنها منذ عام 2003، غير أن روسيا مازالت مترردة في بناء أنموذج أمني لها مع العراق رغم الدعوات الكثيرة التي تلقتها من البعثة الدبلوماسية العراقية في موسكو حول رغبة العراق بتعزيز التعاون الثنائي معها.
إن مايفسر هذا التردد في الإستراتيجية الروسية تجاه العراق قد يكون نتيجة منطقية لحدود الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط مقابل القوة المهيمنة في المنطقة فضلاً عن القوى التعديلية الأخرى التي تتوازن معها في ماتفرضه المصالح من أدوار محدودة.
الولايات المتحدة .. تحالف بحاجة إلى موقف
تسعى كل دولة الى تطوير علاقاتها الخارجية مع المجتمع الدولي، وخاصة مع القوى الكبرى في النظام الدولي، وبالنحو الذي يعزز من مكانتها الدولية ، ويوسع من مساحة تأثيرها الخارجي، والذي ينعكس بدوره على تحقيق مصالحها وأهدافها.
المصالح المتعاظمة واتفاقية الإطار الإستراتيجي
منذ سحب القوات الأمريكية من العراق وإتفاقية الإطار الإستراتيجي لتنظيم العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية هي الإطار الذي يحكم سلوك الدولتين، إذ تتضمن الإتفاقية على محاور وبنود مختلفة ممكن استثمارها لصالح الدولة العراقية في سعيها للانفتاح على العالم من بوابة الدولة الأكبر والأكثر قدرة على مساعدته وفقاً لرأي الكثير من قادته والمختصين في الدراسات الدولية، لاسيما بعد الانتصار على داعش، وانتهاء الصراعات العنيفة.
غير أن ماتتيحه اتفاقية الاطار الاستراتيجي من أُطر للتنسيق والتعاون ليس هو الجانب الأكثر أهمية، فمصالح الدول اذا ما تعاظمت وتشابكت لن يعيقها عدم وجود اتفاقيات أو معاهدات، بل ان هذه الاخيرة غالبا ستكون نتيجة منطقية لتشابك العلاقات وتعاظم المصالح.
كان الهدف من الإتفاقية هو تحقيق اكبر قدر ممكـن مـن المكاسـب الاسـتراتيجية في البحـث بطبيعـة العلاقـة النوعيـة المسـتقبلية مـابين طـرفي الإتفاقية غير أن الحقيقة تبدلت بسبب تبدل أولوليات الولايات المتحدة الأمريكية ولعدم تمكن العراق من تكوين موقف واضح من هذه الإتفاقية، فضلاً عن أن وضع الدبلوماسية العراقية بعد عام 2008 لم يسهم في تعزيز هذا الإتفاق عبر تفعيل البنود الواردة فيه، لذلك بدأ الحديث عن أن إتفاقية الإطار الإستراتيجي هي ليست إتفاقية متكاملة بل هي إطار لتنسيق النشاطات وليس فيها من الإلزام الكافي لتكون هذه الإتفاقية بمثابة إتفاقيات الدفاع المشترك التي وقعتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفاءها في المنطقة.
عبء الشراكة الإستراتيجية
يرى كثير من المختصين أن إتفاقية الإطار الإستراتيجي عبء على العراق بسبب إلزامها الإحادي للعراق مقارنةً بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن محاولات العراق في تفعيل بنود هذه الإتفاقية لم تجدي نفعاً بسبب مخاوف الحلفاء الإقليميين وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، الأمر الذي جعل نطاقها من حيث التنفيذ محدوداً بالمقارنة مع التعاون القائم بين الولايات المتحدة ودول مثل تركيا والسعودية.
ورغم أنه لايمكن تحميل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية ضعف تنفيذ الإتفاقية إلا أنها بقيت مقيدة لسلوكه منذ عام 2008، فالولايات المتحدة الأمريكية لاتطمأن لبعض السياسات التي يقوم بها العراق، فضلاً عن كونه لايزال يعد حليفاً مهماً بالنسبة لإيران. وجميع هذه المعطيات مما لاشك تؤثر في موقف الولايات المتحدة الأمريكية وإستراتيجيتها تجاه العراق.
إن من الصعب على العراق تجاوز محيطه الجغرافي المعقد الذي يفرض عليه ضغوط كبيرة تتعلق بحماية مصالحها من جهة وعدم نقل مستوى التفاعل إلى مواجهة مباشرة بين القوى الرئيسة في الإقليم، وهذه الضغوط في الحقيقة تعمل على تقييد سلوك العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير وتفقد الثقة بهذه العلاقة.
إلى جانب ذلك تعج المنطقة بتطورات متسارعة تكاد أن تغيير معادلات التفاعل القائمة برمتها، إذ يتصاعد التوتر في السياسة الأمريكية تجاه ايران والذي يبدو وكأنه يتجه نحو مزيد من التأَزُم، مع تصاعد نبرة الخطاب وتهديدات الادارة الأمريكية المتزايدة كالحالة مع وزير الخارجية بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون واخرين غيرهم، مقترنة بارسال حاملة الطائرات الامريكية(ابراهام لنكولن) الى منطقة الخليج مدعومة بسرب من قاذفات القنابل (B52)، ومع تأكيدات الرئيس دونالد ترامب المتكررة على تنفيذ وعوده الانتخابية بمزيد من العقوبات الاقتصادية، لاسيما بعد الضغوط التي يسعى إلى تنفيذها بشأن حرمان إيران من القدرة على تصدير النفط ومايتصل بها من موارد نرى في الجهة الأخرىى ثبات الموقف الإيراني ورغبته في المناورة والتصعيد من أجل عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية من التفرد بموقفها دون أي مواجهة. وفي ظل ذلك كيف يمكن للعراق كدولة وسلطة، تجنب الضرر من هذه الأزمة، مع الابقاء على علاقات متوازنة، وحاجة العراق إلى الإحتفاظ بسياسات إيجابية مع طرفي الأزمة.
قد يبدو من الصعب للوهلة الأولى أن تتمكن إيران من إدراة الأزمة بإسلوب البطولة المرنة التي رافقت إستراتيجيتها عند توقيع الإتفاق النووي في عام 2015، فالمواقف ومراكز القوى الإقليمية قد تبدلت بشكل كبير، فضلاً عن أن طبيعة الرئيس دونالد ترامب تختلف تماماً عن باراك أوباما، الأمر الذي يمكن أن يولد التصعيد مواجهة غير مباشرة في مناطق المصالح التي يرتبط بها الطرفان.
قد لاتتمكن إيران من إدراة الأزمة لوقت طويل دون الإعتماد على العراق، أو قد تكون في أزمات متجددة بسبب الضغوط الإقتصادية وإحتمال تراجع فرص إستثمارها في العراق لصالح الإنفتاح السعودي حيال العراق والذي سيكون له تأثير كبير على مصالح الدول الأخرى الموجودة فعلاً في العراق.
ترتيب الأولويات
ليس جديداً أن نقول أن ترتيب الأولويات وإعادة تقييم الفرص والتحديات هي بذاتها أولى صانع القرار، فبالنسبة للاستراتيجية الشاملة للدولة ككل، لاتوجد أي حكومة في عالم اليوم ليس لديها استراتيجية شاملة ترسم في ضوئها غاياتها واهدافها واولوياتها، وأي من المتطلبات الملحة تحتل الاولوية بالنسبة للدولة العراقية بتقدير حكومة السيد عبد المهدي، وكيف يمكن أن يتعامل مع التناقضات التي ستنتقل من البيئة الإقليمية إلى البيئة الداخلية بسبب تطور المواقف وتشابك المصالح وتداخلها. فالتبدل الذي تشهده المنطقة في مراكز القوى الإقليمية الرئيسية قد يجعل العراق في مفترق طرق، فالوقوف على الحياد قد لايكون ممكناً والنأي عن النفس إستراتيجية من الصعب تحقيقها في ظل غياب التجانس الداخلي بشأن الأزمة.
ان من مستلزمات وضع الاستراتيجية الشاملة للدولة، أو استراتيجية الشؤون الخارجية هي تشخيص نقاط القوة والضعف، وتحديد الفرص المتحققة فعلاً في البيئة أو تلك التي تتطلب تكييف إستراتيجي لوجودها والاحاطة الشاملة والتفصيلية بقدرات البلاد ومايتصل بجميع ذك من تأثير جيوسياسي وجيواقتصادي له في المنطقة، وتمثل موارد الطاقة النفطية أهم نقاط القوة للعراق، ومع حرمان إيران أو الدول المستوردة منها صادرات النفط الايراني بسبب العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وعلى الدول التي قد تتعاون معها، والصراعات التي تشهدها الكثير من الدول المصدرة للنفط مثل فنزويلا وليبيا، فإنه من غير الممكن الإستغناء عن النفط العراقي للعالم، وهذا يوفر للعراق على الاقل مساحة لإعادة حساباته الإستراتيجية فهو سيضمن للعراق أن تكون هنالك فرص مواتية لإستثمار التوازن في العلاقات مع الدول إلى جانب إيجاد ظروف مناسبة لتقليل التوتر عن طريق فرص التعاون بين دول المنطقة. إلا أنه في الوقت ذاته قد يجعل العراق أمام ضغوط إيرانية تتطلب المشاركة المشتركة في إدارة تصدير النفط على وفق المنطق الذي ساعدت فيه الجمهورية الإيرانية العراق عندما سيطر تنظيم داعش الإرهابي على جزء من أراضيه.
بناء الذات وتشييد القوة الوطنية
عمل العراق منذ دخوله الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي إلى إعادة تشييد مرتكزات قوته الشاملة من أجل أن تكون قادرة في مواجهة المخاطر التي تحيط أمنه الوطني والتصدي إلى التهديدات والتحديات التي يمكن أن تتنج بعد إنتصاره في هذه الحرب.
جاءت الخطوات الأولى في هذا المعطى متصلة بتوحيد الإرادة السياسية لمواجهة المخاطر المحيطة به، فالمؤسسات الحكومية وغير الحكومية عملت على تطويع قدرتها لتلبية متطلبات هذه الحرب ولعل الدعم الإقتصادي والسياسي والتعبئة الجماهيرية كانت من أهم سمات هذه المرحلة. وعلى الرغم من إنتهاء الحرب على تنظيم داعش والإنتصار على التنظيمات الإرهابية إلا أن الكثير من التحديات كان لها الأولوية في تنفيذها من بينها إقامة الإنتخابات النيابية والأداء السياسي الخارجي الذي كان ضرورياً في تشييد عناصر القوة الوطنية للعراق. ومن المؤكد أن جميع هذه المؤشرات قد كان لها دوراً مهماً في تعزيز قوة الدولة الشاملة وقدرتها على إدراة التهديدات التي نتجت بعد الإنتصار في الحرب.
إستطاع العراق على أثر تشكيل حكومة السيد عادل عبد المهدي من صياغة أدوار جديدة في العلاقات الخارجية كان من أهمها تطوير العلاقات مع الدول الخليجية ولاسيما المملكة العربية السعودية وتعزيز التعاون في محاور مهمة من بينها التبادل التجاري والإستثمار والذي من الممكن أن يكون له تأثير كبير على السياسات الخليجية تجاه العراق والتي لم تكن منسجمة معه في الفترات السابقة.
فضلاً عن ذلك إستطاع العراق أن يكّون منظومة أمنية قادرة على ضبط الأمن الداخلي، إذ وفرت له محاور التنسيق مع القوى التي شاركت معه الحرب خبرة جديدة في كيفية تأمين عناصر المواجهة والإستمكان ومقاطعة المعلومات الإستخبارية، مما أسهم في تكوين عناصر مهمة لردع التنظيمات الإرهابية من إعادة نشاطها من جديد في العراق.
وكواحدة من أهم موارد القوة التي إستطاع العراق تكوينها هو تأسيس الفريق الوطني العراقي للأمن السيبراني
والذي يعد الفريق المختص بمجال الامن السيبراني والاستجابة للحوادث السيبرانية وحماية البنية التحتية للآنترنيت ونشر الوعي في مجال حماية الخصوصية والحماية الذاتية للأفراد والمؤسسات على الانترنيت ويعمل تحت أشراف مستشارية الامن الوطني العراقي. وكان من أهم الأهداف التي سعى إلى تحقيقها هو تطوير القدرات الامنية لمدراء أنظمة تكنولوجيا المعلومات للتعامل مع الحوادث الامنية، تحليل التهديدات الأمنية وتأثيرها وتوفير معلومات عن اخر الحوادث وطرق تجنبها، وهذا ماسيسهم في تعزيز النشاط الإستخباري الذي يتطلع العراق إلى دعمه في مرحلة مابعد الإنتصار على تنظيم داعش الإرهابي من أجل تجنب المخاطر المحتمل وقوعها.
إن من أهم الفرص التي من الممكن التعامل معها في هذه الأوضاع هو إمكانية تحويل الصراعات التي تشهدها المنطقة إلى فرص ممكنة للتعاون والتنسيق المتبادل، فإيران ستحتاج إلى دعم لتتجاوز التحديات التي ستحيط بها، والمملكة العربية السعودية تتطلع إلى بناء نهج جديد لإستراتيجيات التنافس في المنطقة، وجميع هذه المعطيات يمكن أن تؤطر ممكنات التنسيق والتعاون المتبادل أو صياغة نهج إستراتيجي جديد. وتركيا لن تكون بعيدة عن هذا التنسيق فموقعها الجغرافي سيجعلها ممراً للطاقة وسيضاعف هذا الإعتماد المتبادل من فرص ىتحويل الصراع والتنافس بين الدول الرئيسة في المنطقة.
لايبدو هذا الخيار بعيداً عن أذهان صانعي القرار في العراق، وإن كان ذلك فهم على الأقل يسعون إلى تخفيف حدة الضغوط القادمة من توترات المنطقة، ولكن الصعوبة هي من أين يبدأ الجميع لبلوغ هذا المشهد، وهل ستكون الولايات المتحدة الأمريكية منسجمة مع هذا المشهد من التطور في علاقات الخصوم.
إن عملية التبدل في الوظائف التي تقوم بها الدول خصوصا على المستوى الإقليمي تستهدف إعادة توزيع الأدوار على النحو الذي يضمن للدولة موقع جديد في البيئة الاستراتيجية وهي مسالة تتعلق بطبيعة بنية النظام الدولي فبنظام الهيمنة تكون حركة الدولة أكثر سهولة في تكوين وظائف جديدة بسبب الفرص المتكونة بشكل مستمر لتبدلات تمركز القوة.
ان لجوء الدولة الى التغيير كهدف يمثل الحالة التي تسعى من خلالها الدولة الى تعزيز وضعها في البيئة الاستراتيجية بحيث يؤدي التغير الى شعورها بالأمن وتحقيق مكاسب أكبر داخل النظام مما يزيد من نصيبها من القوة والتأثير وهذا ما يدفع الدولة الى توظيف الفرص المتكونة في النظام المحيط بها لأجل زيادة نفوذها. فالسعودية تدرك قوتها الاقتصادية والسياسية ومكانتهم الدينية في الإقليم أضافةً الى محاولة السعودية الى استثمار علاقتها القوية مع الولايات المتحدة الامريكية في تعزيز دورها الإقليمي في المنطقة وان الهيمنة على المنطقة تشكل إهتماماً خاصاً في مواجهه النفوذ الإيراني في المنطقة.
وإذا ماأرادت المملكة العربية السعودية أن تعزز نفوذها في مناطق تداخل وتلاقي المصالح مع إيران فإن عليها تعديل سلوكها الإقليمي كخطوة أولى، وهذا مايبدو واضحاً في تقربها المباشر من العراق فقد إعتمدت على الإسلوب الاقتصادي كمدخل لتعزيز التعاون والتأثير على مصالح إيران، وهي تدرك تماماً أن هذا التعاون الاقتصادي سيكون له تأثير كبير على فرص إيران في العراق ومصالحها الاقتصادية في هذا الجانب والتي تعده متطلب ضروي لإستمرار مواجهتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
إن محاولات تعزيز التعاون بين العراق والمملكة السعودية لن تكون سهلة في حال تجاوزت الجمهورية الإيرانية أو تجاهلت الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، فمنطق العقيدة الإيرانية يفرض على الشركاء فكرة أم القرى بالنسبة لإيران وهي لن تكون قادرة عن مغادرة مصالحها بهذه الطريقة، فضلاً عن ذلك يرتبط العراق بإيران بعلاقة صداقة دامت سنوات طويلة، وهذه العلاقات كانت فيها مواقف وإسناد تتجاوز في بعض الأحيان منطق التعاون ولذلك لن يكون بمقدار السعودية والعراق تجاهل هذه التعقيدات في العلاقات الثنائية مع الطرف الثالث.
إلى جانب ذلك فإن العلاقات العراقية الإيرانية لا تنطلق من منطلق دبلوماسي فحسب، بل هناك روابط تاريخية وجغرافية وثقافية بين الدولتين فتحسين العلاقة بين العراق والسعودية لا يعني انهاء الدور الإيراني في العراق بشكل سريع خاصةً بعد ان وقع العراق وايران في 23 تموز 2017 على اتفاقية التعاون العسكري لمكافحة الإرهاب والتطرف، فالهدف السعودي من هذا الانفتاح هو محاولة احتواء الدور الإيراني في المنطقة فضلاً عن الحفاظ على التوازن في المصالح الذي بدأ يتراجع بالنسبة للسعودية بعد أزمة الرياض وإنضمام إيران وتركيا إلى محور تتواجد فيه قطر يمثل بالنسبة إلى المملكة عمق التعاون الخليجي.
إن الفرضيات الحتمية التي تفسر التفاعلات القائمة قد لايمكن أن تكون كافية في تفسير مايجري من تبدل في أدوار القوى الإقليمية، والأقرب للتحليل العلمي أن المنطقة من المحتمل أن تشهد إطاراً جديداً للتنسيق في ظل الضغوط التي تتعرض لها الجمهورية الإيرانية التي قد تجبرها إلى تغيير سياستها للحفاظ على تماسك الداخل وهذا ماتستهدفه الولايات المتحدة الأمريكية في المدى القصير على أقل تقدير وهو يبقى أمر تقدره مرتبطة بعدة متغيرات يقع على عاتق العراق منها الكثير.
الخاتمة
إن طبيعة التحديات التي تواجه الأمن الوطني تعد نتيجة منطقية لحرب النوايا التي تسود المنطقةى برمتها، فعلى الرغم من الثبات النسبي في بنية النظام الإقليمي إلا أن حركة المتغيرات تؤثر بشكل كبير في تمركز القوة وإنتقالها بين الدول التي لاتزال تبحث عن المقدار الذي يناسبها من القوة لضمان الأمن. وتبدو التهديدات الناتجة عن حركة هذه المتغيرات أن هنالك حدود المصالح مايزال غير مستقر وغير كافي بالنسبة للقوى الكبرى والإقليمية.
ويمثل العراق في ضوء تعقيدات البيئة الإقليمية وتداخل متغيراتها المعطى المهم في تصور القوى الإقليمية فهو بالنسبة لإيران يمثل إمتداداً حيوياً لأمنها القومي وبالنسبة للمملكة يمثل الطريق الذي يمكن من خلاله إحتواء التمدد الإيراني في المنطقة، وهو بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية يمثل الموازن في تقييد المصالح وتقديرها بالنسبة للقوى الرئيسة في المنطقة.
لايعد من السهل التعامل مع هذه المتغيرات بسهولة في ظل التضاد الإقليمي الذي تشهده المنطقة، ومن الصعب اللجوء إلى الحياد كوسيلة لتجاوز التهديدات دون أن تكون هنالك إجراءات وسياسات تخص هذا الجانب، فالعراق ينبغي أن يتمكن من إستيعاب المصالح المتناقضة والذي يتطلب أن تكون لدى القيادة العراقية القدرة على تأمين التماسك الداخلي بشأن النأي عن النفس والتخطي إستراتيجياً للتناقضات الإقليمية، فالعراق لن يتمكن من تجاوز حرب النوايا وصدام المصالح دون إعتماد تكتيكات تتعلق بهذا التخطي، فإحتفاظ العراق بشراكات متعددة يعد جانب ضروري خصوصاً مع الإندفاع الروسي تجاه المنطقة ورغبة الصين بضمان إمدادت الطاقة والنويا السعودية بشأن إرتداء ثوب المصالح الثنائية بدلاً من إدارة الأدوار المتناقضة في العرقا، وهنا فإن على الدبلوماسية أن تنتهج هذا السلوك بطريقة غير تقليدية قادرة على تجاوز نوايا الخصوم.
إن إنسجام مؤسسات صنع القرار سيكون له أثر مهم في إدارة هذه التهديدات، فالإنسجام داخل هذه المؤسسات سيكون له تأثير حقيقي في الخيارات الناتجة عن الأداء الحكومي تجاه البيئة الإقليمية مع ضرورة أن يكون هذا الإنسجام قادراً في أن ينتج رؤية وطنية تكون أكثر وضوحاً لما يجب أن يكون عليه العراق على المدى القريب.
https://telegram.me/buratha