د.عبد الإله العرداوي / كلية التربية الأساسية – جامعة الكوفة
الحمد لله الذي منّ علينا بنبيه محمد (ص) وأهل بيته الطيبين وعرّفنا بمنّه وجوده عليهم، والصلاة والسلام على أفضل خلقه وأشرف بريّته أئمة الهدى وسفن النجاة نبينا محمد (ص) وآله الطاهرين، وبعد:
فتاريخ البشرية مليء بالأحداث والتطورات المتتالية، ولو تصفّحناه وبحثنا في طياته عن القدوات الإنسانية والعظماء، لجذبتنا إليه صحائف تفوح منها رائحة المسك. وتهلّ علينا نسائم طيب العنبر. ومن هذه القدوات الإنسانية، شخصية سجل التاريخ مسيرتها بأحرف من الأنوار الإلهية، والإشراقات الربانية، سعت في دنياها إلى سلوك الطريق نحو الكمال الإنساني، وجلّ حسن الصفات، لم ترضخ إلاّ للواحد الأحد، ولم تنكس رأسها إلاّ خضوعاً وخشوعاً للفرد الصمد، فرفعها ربّها إلى عليين، وأقعدها في مقعد صدق مع أنبيائه وأصفيائه.
تلك الشخصية العظيمة، هي شخصية العباس بن الإمام علي بن أبي طالب (ع). في كل مرة كنت أقرأ فيها تاريخ أهل البيت (ع)، وسيرة رجالاته، كانت تستوقفني شخصية العباس (ع) التي نهلت من ينابيع الإخلاص والإيمان، وتزينت بتاج الشجاعة والشهامة والوفاء والإخلاص ما عجزت الأقلام عن وصفها، وتحيرت العقول في إدراك كنهها، فكانت سيرته ومواقفه في طف كربلاء، وحياته بأكملها تشدني نحو إعادة القراءة مرة بعد أخرى إلى ما لا نهاية له لسيرة قمر بني هاشم ومحاولة سبر أغواره، وكيف بدأت حياته، والمصير الذي آل إليه، وهو مؤمن بقيمه التي آمن بها، وعلى رأسها إيمانه بإمامة أخيه الإمام الحسين (ع) وأحقيته وأفضليته. فلم يتراجع العباس (ع) عن الإيمان بقيمه، ولم يهن، بل أعطى وقدم كل ما يستطيع من تضحيات، ويكفيه فخراً أنه كان كبش كتيبة الإمام الحسين (ع)، ومجمع عدده وهو في كل ذلك رسم لنا صورة مشرقة تجسّد جميع القيم الإنسانية والإسلامية.
وأمام هذه القيم، وأمام هذا الكم من المؤلفات التي كتبت عنه (ع) أجد نفسي صغيراً جداً لأكتب عن جانب من جوانب حياته المضيئة، لكن حبي لهذه الشخصية العظيمة، وإيماني الكبير بأفعاله ومواقفه، شجعني على كتابة هذه المقالة القصيرة .
أما حياته مع أخيه الإمام الحسين (ع) فدامت إلى حين استشهاده في واقعة الطف، إذ بلغ عمره فيها (34) سنة، وهذه الحقبة من حياته يمكن تقسيمها على مرحلتين، الأولى: مرحلة ما قبل واقعة الطف، والثانية: مرحلة واقعة الطف وما يتصل بها من أحداث. فأما المرحلة الأولى، وهي ما قبل واقعة الطف: فبعد استشهاد الإمام الحسن (ع) تولى الإمام الحسين (ع) أمور الإمامة التي بدأت سنة (50) للهجرة ودامت ما يقرب العشرة أعوام، وهذه المرحلة تضمنت أحداثاً كثيرة، من أهمها: 1- مخالفة العباس (ع) لبيعة يزيد: كان العباس (ع) مطيعاً لأخيه الإمام الحسين (ع) وممتثلاً له في تلك الحقبة، إذ أعلن الإمام الحسين (ع) مخالفته لتلك البيعة بشدة، وقد كتب كتاباً إلى معاوية يذكر فيه عيوب يزيد وبدعه في الدين، وما فعله بشيعة أمير المؤمنين (ع) من سفك للدماء، وهتك للحرمات، وقال: ((وأن أخذك الناس ببيعة ابنك يزيد، وهو غلام حدث يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، فقد خسرت نفسك، وبترت دينك))(1). 2- حماية العباس (ع) ومرافقيه للإمام الحسين (ع) في مقر الإمارة بالمدينة: مات معاوية في النصف من رجب سنة (60) للهجرة، وحلّ يزيد محله على كرسي الخلافة، ولم يلتزم بوصايا أبيه، وكتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – وكان والياً على المدينة من قبل معاوية – أن يأخذ البيعة له، ولا يرخّص له في التأخير عن ذلك، وقال في كتابه: ((إن أبى عليك فاضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه)).
أحضر الوليد مروان بن الحكم، واستشاره في أمر الإمام الحسين (ع) فقال: ((إنه لا يقبل، ولو كنت مكانك ضربت عنقه)) فقال الوليد: ((يا ليتني لم أكن شيئاً مذكورًا)) ثم بعث الوليد إلى الإمام الحسين (ع) فجاء في ثلاثين من أهل بيته ومواليه (2) وشيعته شاكين بالسلاح ليكونوا على الباب فيمنعونه إذا علا صوته(3) وبيده قضيب رسول الله (ص).
وفي رواية أخرى، أن الإمام الحسين (ع) دعا تسعة عشر رجلاً من أهل بيته، وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: ((إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمناً من أن يكلفني فيه أمراً لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون عليّ، فإذا دخلت عليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا لتمنعوه عني)).
فلما دخل الإمام الحسين (ع) قرأ الوليد الكتاب، فقال الإمام الحسين (ع): ((ما كنت أبايع ليزيد)) فقال مروان: ((بايع لأمير المؤمنين)) فقال الإمام الحسين (ع): ((كذبت، ويلك على المؤمنين من أمرة عليهم)) فقال مروان وجرد سيفه، وقال: ((مر سيافك أن يضرب عنقه قبل أن يخرج من الدار، ودمه في عنقي)) وارتفعت الصيحة فهجم تسعة عشر رجلاً من أهل بيته (ع)، وقد انتضوا خناجرهم فخرج الإمام الحسين(ع) معهم(4) وهنالك رواية أخرى يبرز فيها ثبات العباس (ع) وأتباعه رأي الإمام الحسين (ع)(5). 3– العباس (ع) في طليعة موكب الإمام الحسين (ع)من المدينة إلى مكة: عَلِمَ الإمام الحسين (ع) موقف يزيد، وأنه يريد مقتله إن لم يبايع، لذلك عزم الخروج في آناء الليل من المدينة قاصداً مكة، فاجتمع مع أهله وشيعته خفية يدعوهم إلى مرافقته، فتباينت مواقفهم، فمنهم من اعتذر وأذن له الإمام الحسين (ع) بالبقاء، ومنهم من اعتذر بأعذار واهية وسار مع ركب الشيطان، بل إنه دعا الإمام (ع) للعدول عن مسيره، وأما البقية فقد خرج معه، وهم أهله وأقرباؤه وجمع من بني هاشم وخلص أصحابه، وفي طليعة هؤلاء الأهل العباس (ع) الذي اصطحب معه أهله وأخوته(6).
قال المرحوم الدربندي (7)في رواية، وهي: روى عبد الله بن سنان الكوفي عن أبيه عن جده، أنه قال: خرجت بكتاب من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (ع) وهو يومئذ بالمدينة، فأتيته وقرأه فعرف معناه، فقال: أنظرني ثلاثة أيام. فبقيت في المدينة ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجه إلى العراق، قلت في نفسي: أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز، كيف يركب، وكيف جلالته وشأنه، فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة والرجال واقفين والإمام الحسين (ع) جالس على كرسي وبنو هاشم حافون به، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيت نحواً من أربعين محملاً وقد زينت المحامل بملابس الحرير والديباج.
قال: فعند ذلك أمر الإمام الحسين (ع) بني هاشم أن يركبوا محارمهم على المحامل، فبينما أنا أنظر، وإذا بشاب قد خرج من دار الإمام الحسين (ع)، وهو طويل القامة وعلى خده علامة، ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحوا يا بني هاشم، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار، وهما تجران أذيالهما على الأرض حياءً من الناس وقد حفّت بهما إماؤهما، فتقدم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل، وجثى على ركبتيه، وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل. فسألت بعض الناس عنهما، فقيل: أما أحدهما فزينب والأخرى: أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين (ع)، وقلت: ومن هذا الشاب، فقيل لي: هو قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين (ع) إلى أن قال: ثم اركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل، فلما تكاملوا نادى الإمام الحسين (ع): أين أخي ؟ أين كبش كتيبتي ؟ أين قمر بن هاشم ؟ فأجابه العباس (ع) قائلاً: لبيك لبيك، فقال له الإمام (ع): قدم لي يا أخي جوادي، فأتى العباس (ع) بالجواد، وقد حفّت به بنو هاشم، فأخذ العباس (ع) بركاب الفرس حتى ركب الإمام (ع) ثم ركب بنو هاشم، وركب العباس (ع) وحمل الراية أمام الإمام الحسين (ع)، قال: فصاح أهل المدينة صيحة شديدة، وعلت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب، وقلن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فقال العباس (ع): إي والله هذا يوم الفراق والملتقى يوم القيامة، ثم ساروا قاصدين الكوفة، فسرت معهم حتى وصلنا كربلاء. عرف أهل الكوفة خبر الإمام الحسين (ع) وامتناعه عن بيعة يزيد، وخروجه إلى مكة فأرسلوا إليه الكتب يدعونه بالتوجه إلى الكوفة، وبعد توقف في مكة دام أربعة أشهر وخمسة أيام، توجه الإمام الحسين (ع) بأهله وأصحابه إلى الكوفة في يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية)، ودخل كربلاء في اليوم الثاني من محرم عام (61) للهجرة، وبقي فيها حتى يوم استشهاده، ومن كان معه من أهله وأصحابه يوم عاشوراء. المرحلة الثانية: العباس (ع) في واقعة الطف وبطولاته واستشهاده: كان دخول العباس (ع) وأهل البيت (ع) كربلاء في الثاني من المحرم واستشهاده يوم العاشر منه، وعليه يكون العباس (ع)في أرض كربلاء ثمانية أيام قضاها جنب أخيه الإمام الحسين ع، لا يردّ له قولاً، ولا يعصيه في أمر، بذل خلالها الغالي والنفيس، والتضحيات الجليلة لحين استشهاده في يوم عاشوراء، ولعلنا في هذا المقام نحيل القارئ إلى الكتب الكثيرة التي كتبت عن واقعة الطف من كتب التاريخ والمقاتل وغيرها، وقد فصّلت هذه الكتب في بطولات العباس (ع) واستشهاده، وعليه يمكن الرجوع إليها، على أننا لا يعني عدم ذكرنا لبطولاته واستشهاده بخس حق هذه الشخصية العظيمة في مقامنا هذا، وإنما نحن نسأل الله أن يقيل عثرة قلمنا في عدم الكتابة للسبب الأنف الذكر، والله ولينا وحسبنا، ومنه السداد والتوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) ينظر: مقتل الحسين (المقرم): 139 نقلاً عن رجال الكشي: 32 طبعة الهند.
(2) ينظر: بحار الأنوار: 44/324، واللهوف: علي بن موسى بن جعفر بن طاووس (ت664هـ) أنوار الهدى، قم، ط1، 1417: 22.
(3) مقتل الحسين (الخوارزمي): 262 – 263.
(4) ينظر: مناقب آل أبي طالب: 4/88.
(5) ينظر: الكامل في التاريخ: علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم المعرف بابن الأثير (ت630هـ) دار صادر، بيروت 1386هـ – 1966م: 3/263 – 264، وتاريخ الطبري: 4/251، ونفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم، الشيخ عباس القمي، مطبعة شريعت، قم، ط1، 1421هـ: 64، وبحار الأنوار: 44/324 نقلاً عن إرشاد المفيد، ومعالي السبطين: 1/203.
(6) ينظر: بطل النهضة الحسينية: 116.
(7) أسرار الشهادة: 2/627 – 629: نقلاً عن معالي السبطين: 1/220 – 221.
(مجلة ينابيع / العدد 60)
https://telegram.me/buratha