دراسات

محنة الصناعة العراقية...بقلم: د. مدحت القريشي خبير اقتصادي واكاديمي

2881 08:26:00 2013-03-12

 

واجهت الصناعة العراقية عبر مراحلها المختلفة نكسات وضربات موجعة ومتتالية تركت آثارها المدمرة على تطور واستمرار النشاط الصناعي، ابتداء من عملية التأميم غير المدروسة للعديد من الصناعات الاهلية في عام 1964 ثم الحرب العراقية الايرانية التي دامت ثمان سنوات، فالعدوان الامريكي على العراق في عام 1991 ومروراً بالحصار الشامل وغير المسبوق عالمياً والذي امتد لاثنى عشر سنة، وانتهاء بالغزو الامريكي للعراق والاطاحة بالنظام الاستبدادي في عام 2003 ، وما تبعه من تدمير وحرق وسلب ونهب لمؤسسات الدولة والمصارف الحكومية والمصانع وغيرها. ولهذه الاسباب انهارت وتوقفت جميع أو معظم المصانع عن العمل والانتاج. وان المصانع التي استطاعت معالجة أوضاعها ومعاودة النشاط فأنها تعاني من ظروف ومشكلات عديدة منها انعدام الخدمات الاساسية وفي مقدمتها الطاقة الكهربائية ومستلزمات الانتاج وارتفاع تكاليف الانتاج بشكل ملحوظ وخاصة اجور النقل واجور العمال وغيرها من الامور التي لا تميل لصالح النشاط الصناعي المحلي.

وأضافة الى ما تقدم فأن انفتاح السوق العراقية على مصراعيها وبالشكل الفوضوي وغير المسؤول لكل انواع السلع دون ضوابط او فرض رسوم جمركية او رقابة على الجودة والمواصفات، منذ الاحتلال الامريكي وبداية عهد سلطة الأئتلاف المؤقتة، ادى الى توقف العديد من المصانع عن الانتاج لعدم قدرتها على المنافسة وتصريف الانتاج. وان العديد من السلع الصناعية الداخلة للعراق رديئة النوعية  وتباع بأسعار متدنية، وربما دون مستوى تكلفة أنتاجها في بلدانها الاصلية مما يثير الشكوك حول وجود حالة ما يعرف بالاغراق والتي تهدف من ورائها الى السيطرة على السوق العراقية ومن ثم امكانية رفع اسعار تلك السلع فيما بعد. وتجدر الاشارة الى ان حالة الاغراق مرفوضة حتى بموجب قوانين منظمة التجارة العالمية حيث يحق للبلد العضو الذي يتعرض لمثل هذه الحالة اقامة الدعوى لدى المنظمة الدولية على الجهة التي تمارس حالة الاغراق بهدف مواجهتها من خلال فرض الرسوم الجمركية ضدها، في حين ان مثل هذه الحالة تستمر في العراق دون ردود افعال تذكر من الجهة المعنية رغم تكرار الدعوات من قبل الاقتصاديين والسياسيين ورجال الاعمال لمواجهة هذه الحالة. والذي يدعو للاستغراب بل والغضب ان بعض الوزراء والمسؤولين يصرحون من وقت لآخر بتوقعاتهم بمضاعفة التبادل التجاري بين العراق وبعض الدول المجاورة مثل تركيا وايران وغيرها من البلدان، وكان تحقيق زيادة في استيراد السلع للعراق يمثل انجازاً اقتصادياً كبيراً حتى وان كان ذلك يتم على حساب تدمير الانتاج المحلي وزيادة عدد العاطلين عن العمل وهدر موارد النفط على الانفاق الاستهلاكي الجاري وحرمان البلد من فرص الاستثمار والتنمية.

والسؤال الملح الذي يطرح بأستمرار هو هل من المنطق الاقتصادي والمصلحة الوطنية التنموية للعراق اهدار عوائد النفط ( غير الدائمة ) على استيراد السلع المختلفة وعلى المصروفات الجارية  والاستهلاكية والرواتب لمنتسبي الدولة من الموظفين والشرطة والجيش والذين تتكاثر أعدادهم بشكل مستمر ودون ضوابط وبما لا ينسجم مع الخدمات والاعمال التي يقدمونها , وعدم استخدام تلك الاموال لاغراض الاستثمار والانتاج الصناعي والنمو الاقتصادي وتشغيل الايدي العاملة العاطلة ناهيك عن الحجم الكبير والهائل من الاموال المخصصة للرآسات الثلاث والوزراء والنواب السابقين واللاحقين  والتي سوف تصل  بمرور الوقت الى حدود تكاد تلتهم معظم موازنة الدولة.

ان مثل هذا الوضع  الشاذ  بالنسبة للأنتاج المحلي والتنمية الاقتصادية انما يعكس غياب الرؤيا الاستراتيجية والتنمويه وكذلك غياب السياسات الصناعيه والتجاريه والاقتصاديه الملائمة. ولهذا يلاحظ غياب التنسيق فيما بين القطاعات الاقتصاديه المختلفه وفيما بين الوزارات المختلفه:مثل الصناعه والتجاره ,والصناعه والكهرباء,والكهرباء والنفط ,والسياسه النقديه والسياسه الماليه الخ. ان الوزارات والمؤسسات الاقتصاديه المختلفة تعمل بشكل منفرد وكأنها جزر مستقله في محيط .ولهذا تستمر العديدد من الظواهر الاقتصاديه السلبية التي تعمل على استمرار الوضع الاقتصادي الشاذ وادامة الهدر وضياع فرص التنميه الحقيقية  في ظلر حالة اللامبالاة لما يحدث في البلد.

ويلاحظ المراقب لللاسواق العراقية ان السلع من الدول المجاوره مثل ايران وتركيا وغيرها من البلدان تملأ الاسواق العراقيه .وعلى سبيل المثال لا الحصر فان السلع الصناعية المختلفة تاتي من ايران: ابتداء من السيارات والباصات والاجهزه الكهربائيه والمنزليه مرورا بالرز والمواد الغذائيه والفواكه والخضر وحتى الطابوق ومواد البناء. ورغم ان ذلك من شأنه توفير السلع باسعار متدنيه ولصالح المستهلك الا انها من جهة اخرى تعمل على تحطيم وازاحه الصناعات المحليه والتي تكافح من اجل البقاء ومنافسة السلع المستورده والحفاظ على العاملين لديها في وقت اصبحت قضية توفير فرص العمل وتخفيف مشكلة البطاله من التحديات الكبيره التي تواجه البلد حيث اصبحت مشكلة البطاله مشكله سياسية واجتماعيه فضلا عن كونها مشكله اقتصاديه.

واضافة الى ما تقدم فان الصراع السياسي المحموم فيما بين الاحزاب والكتل السياسيةوالذي يهدف  الى السيطره والاستحواذ على اكبر قدر من النفوذ والسلطة والمناصب والذي يستغرق جل اهتمام ونشاط هذه الكتل والاحزاب ويشغلهم عن المهام المتعلقة باحياء وتطوير الصناعة وما تتطلبه من قوانين وقرارات واجراءات تتعلق بتاهيل الصناعه وتهيئة الكادر المؤهل صاحب الخبره وتوفير الاموال اللازمة لذلك والاستعانه بالمؤسسات التنموية الدوليه وبالبلدان المتقدمه المختلفه. ولابد من الاشارة الى ان مؤسسات الدولة الاقتصاديه حاليا تفتقر الى الكادر المؤهل والكفوء وصاحب الخبرة والتجربة وان الغالبيه العظمى من الموظفين والمسؤولين والخبراء والمستشارين جاءوا الى هذا المؤسسات بموجب المحاصصه الحزبيه والطائفيه والقوميه والمحسوبيه والصدفة في حين يوجد العديد من الخبراء والاقتصاديين المؤهلين خارج نطاق الخدمه مما يمثل هدراً كبيراً للموارد البشرية المؤهلة. ويمكن الاستفادة من مثل هؤلاء في مجالس ادارات المؤسسات الصناعية والاقتصادية او يمكن استحداث لجان استشارية خارجية تقدم المشورة والخدمة للمؤسسات الاقتصادية كما حدث في التسعينات في وزارة الصناعة على سبيل المثال والتي قدمت اعمالاً وخدمات انعكست على قرارات واجراءات الوزارة.

ان الاوضاع الاستثنائية التي تمر بها الصناعة بشكل خاص والاقتصاد الوطني بشكل عام يوفر كل المبررات الاقتصادية وغير الاقتصادية لتوفير الحماية والدعم للانتاج الوطني في هذه المرحلة كونه ينطبق على منطوق نظرية الصناعة الناشئة والتي طرحها الاقتصادي الالماني ( فريدريك ليست) لتبرير حماية الصناعة الالمانية الفتية امام المنافسة البريطانية ابان الثورة الصناعية وذلك حتى تسترد عافيتها ومن ثم ليصار الى تخفيفها ثم الغائها عندما تستطيع الصناعة الالمانية الفتية من المنافسة للسلع الاجنبية. ويشار في هذا الصدد ان قانون التعرفة الجمركية الذي صدر ويطبق من آذار من العام الحالي هو خطوة على الطريق الصحيح في دعم الصناعة الوطنية ويجب ان تتبعها خطوات عديدة اخرى. ولا بد من التأكيد بأن توفير الحماية للصناعة الوطنية في المرحلة الحالية هو دعم وتشجيع رغم انه يتم على حساب المستهلك المحلي، لكن تبرير ذلك هو ان تكلفة الحماية التي يتحملها المستهلك والمؤقتة يقابلها ويبررها المنافع الاقتصادية التي تعود على البلد وعلى المستهلك لاحقاً عندما تتعزز وتتطور هذه الصناعة وتعود منافعها على الجميع.

وبالمقابل نرى على سبيل المثال بأن ايران تقوم بدعم صناعاتها المحلية بشكل كبير من خلال الاعانات والحماية الجمركية وغيرها، الامر الذي جعل الصناعيين العراقيين يشعرون بالاجحاف وبأنهم تركوا لوحدهم لمواجهة المنافسة في جو من عدم تكافؤ الفرص. ومن احد الامثلة الصارخة والمؤسفة على مثل هذا الوضع السلبي ما تعانيه صناعة الطابوق في العراق حالياً من منافسة مدمرة أدت وتؤدي الى اختفاء هذه الصناعة الازلية في العراق وتسريح العاملين من تلك المعامل. ويقول احد اصحاب المعامل المتأثرة بهذه الحالة بأنه في حالة تسريح العمال فقد يضطر البعض منهم اللجوء الى الاعمال الارهابية لقاء مبالغ زهيدة من المال من قبل القاعدة من اجل اعالة عوائلهم.

ويذكر ان صناعة الطابوق كانت مزدهرة في السبعينات في منطقة النهروان شرق العاصمة بغداد حيث اقيمت منطقة صناعية لمعامل الطابوق وقدمت لهم الدولة في الثمانينات الطاقة الكهربائية مجاناً وبنت لهم مصنعاً لمعالجة المياه وزودت المصانع بالوقود. لكن هذا المجمع تعرض شأنه شأن غيره من المرافق الاقتصادية الى التخريب والسلب والنهب بعد الاحتلال. وفي محاولة لأحياء هذه المصانع تم اقناع العديد من اصحاب المصانع للعودة الى المنطقة في عام 2006 والبدء بالانتاج بعد ان قطعت الدولة لهم الوعود بتوفير الكهرباء والوقود بالاسعار الرسمية، الا ان اصحاب المعامل يشكون من عدم الايفاء بهذه الوعود بشكل كامل مما يسبب لهم الكثير من المشكلات. ولهذا فأننا نرى حزم الطابوق الايراني المستورد تنتشر هنا وهناك ويضطر الناس لشرائها لرخص اسعارها بالمقارنة مع اسعار الطابوق المحلي ( نحو الثلث). وتجدر الاشارة الى ان رخص اسعار الطابوق الايراني يعود الى قيام الحكومة الايرانية بتقديم الاعانات للمصدرين بطرق عديدة ومختلفة ومنها:

توفير الوقود والكهرباء بسعر تفضيلي للمصانع.

منح اعفاءات ضريبية للمصانع.

السماح للمصدرين بتحويل جزء من عوائد الصادرات الى خارج البلد.

وأخيراً فرض ضريبة جمركية تصل الى 150% على السلع المستوردة.

ولهذا فأن المصدر الايراني الى السوق العراقية يجد بأن نشاطه يحقق ارباحاً كبيرة بسبب الدعم والحماية والخدمات المقدمة لهم. وعليه تستمر ظاهرة استيراد حزم الطابوق الايراني رغم ما فيها من اضرار بمصالح المنتجين المحليين والاقتصاد الوطني والعاملين في صناعة الطابوق.

وما يقال عن صناعة الطابوق ينطبق على العديد من الصناعات الاخرى في العراق مثل صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات والتي تكاد تنقرض بسبب الاستيراد للملابس من المناشيء الاسيوية وبسبب ميل المستهلك العراقي لشراء الملابس المستوردة الرخيصة دون اي اعتبار لآثار ذلك على اقتصاد البلد. واننا لا نستبعد دور الدوائر والمؤسسات العراقية المعنية في تفضيل الاستيراد على الانتاج المحلي بسبب المنافع المختلفة التي يحصلون عليها من جراء الصفقات التجارية والذي يعكس نوعاً من الفساد الاداري والمالي المستشري في البلد.

وفي الختام نعيد طرح السؤال الذي طرحناه سابقاً : لمصلحة من تستمر حالة الاهمال للصناعة الوطنية بل والمساهمة بمحاربتها؟ فهل هي خدمة للمصالح التجارية المحلية أم خدمة للمصالح التجارية لدول الجوار وغيرها أم هي تنفيذاً لسياسات الاقتصاد الحر وتوجهات المؤسسات المالية الدولية التي لا يهمها سوى التجارة الحرة والاسواق المفتوحة ومصالح البلدان الرأسمالية الغربية والبلدان الاخرى حتى وان كانت على حساب المصلحة الاقتصادية العليا للبلد وفرص اعادة الاعمار والتنمية فيه.

10/5/13312

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
واثق كبة
2013-03-12
استاذي الفاضل لقد اصبت كبد الحقيقة وازيدكم علما بان الصين تدفع للمستثمر الاجنبي نسبة مئوية تصل لحد 12% من قيمة البضاعة المصدرة خارج الصين .ولهذا نرى بان العراقي يذهب هناك وينشى مصنع ويصدر للعراق .وهكذا تذهب رؤؤس الاموال الى الخارج لان العراق اصبح بيئة طاردة للمستثمر .الحل كما قلتم بان نضع قيود كمركية على البضاعة المستوردة المصتعة بنسبة عالية وندعم المواد الاولية المستوردة وندعم الصناعيين باعطائهم الاراضي والتسهيلات للمساهمة في سحب البطالة وهذا سوف يخفف الضغط على طلب الوظائف الحكومية
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك