دراسات

فلسفة الحكم في العلاقة بين الحاكم والمحكوم

2706 16:22:00 2013-02-23

بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي

توطئة: هذه الدراسة مستقاة من مقدمات فصول كتابي نهاية التاريخ الذي أعيد الان تحقيق مادته.تكمن فلسفة الحكم في احد جوانبها معرفة طبيعة وحاجيات المحكوم، وفي إختزال المسافة بينهما، فكلما زادت المسافة بين الحاكم والمحكوم كلما ظهرت اشكال الفساد السياسي والتردي الاجتماعي والفكري والنفسي، ولكما اقترب الحاكم من المحكوم كلما ظهر العدل، الا ترى كيف ان الله تعالى قال: " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ". (1)إن فلسفة القرب تعبر عن الاحساس الكامل بين الخالق والمخلوق، ولهذا ترى اصحاب العرفان وقبلهم الانبياء والرسل والاوصياء عارفين بالله بقربهم منه.ومن هنا نرى ان الحاكم البعيد عن الامة لايعرف احتياجاتها وحتى ان صرف الكثير من الاموال فانه يصرفها في غير موقعها لانه غير مدرك لفلسفة القرب.إشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم:على الرغم من وصول الكثير من الحكام للسلطة بطريقة الانتخابات إبتداءً إلا ان موقع السلطة ذاته وما يحمل من خصوصيات وعناوين إعتبارية ومنافع مالية بالدرجة الاولى يثير مكامن الطمع في نفس الحاكم، ويؤجج شهوته للمزيد من التحكم والاستبداد بالسلطة. ولعل ماكيافيلي لاحظ ذلك في كتابه (الامير)، إلا أنه في الواقع لم ياتي بجديد، فهو كل ما فعله إنه صار إنعكاساً لحالة الحاكم وإحساسه النفسي والفكري. مع ملاحظة أن آراء ماكيافيلي تناقض الموقف الاخلاقي والديني.لعل الإشكالية تكمن في حدود العلاقة بينهما، وقدرة كل منهما على فهم الآخر، غير ان الفوارق تبقى كبيرة في رسم حدود العلاقة ومعاييرها، فالحاكم يمتلك أدواة السلطة بما يمكنه من فرض سطوته وموقفه، ويمكن ان يستعمل القوة في تبيان قدرته على الفعل، وفي تجارب كثيرة عبر حركة التاريخ القديم والحديث والمعاصر، تم استعمال القوة لفرض الهيمنة، مما يوحي بخضوع المجتمعات للسطة خضوعاً إختيارياً في حين هو خضوع إجباري فرضته سطوة السلطة وقوتها.من جانب آخر ثمة تناقض نفسي في نفس الحاكم يدفعه إلى الإحساس بالخوف من المحكوم فيفضل الإبتعاد، وقد يكون هذا البعد ناتج عن تنامي نزعة التعالي والتكبر فتزداد الهوة بين الحاكم والمحكوم وتتعمق الإشكاليات.التناقض السياسي بين المادي والروحي:لاشك ان الموقف السياسي في تبنيه للمثل المنحطة قد أدى إلى قطع الصلة بينه والمثل العليا، فعندما يتم تغليب المادي على الروحي يصاب المنحى السياسي بالنكوص فتظهر عندها ملامح نشوء الاتجاهات الدكتاتورية بسبب لان من طبيعة الاتجاهات الدكتاتورية في التفرد بالحكم هو تخليها عن الموقف الروحي. ولعل من أهم أسباب هذا التناقض هو غياب معايير القيم أو تدنيها وإنحطاطها، وغياب الحافز النفسي والروحي عند هؤلاء. حاولت الفلسفة الغربية الحديثة طرح منظومة من الافكار التي تتبنى مثل مادية صرفة وخاصة افكار ليو شتراوس (2) نشر مقولات تصرح بأن : " المسؤوليات التي يتحملها الحاكم والواجبات المناطة به لا تخضع لشروط الدين وقواعد الطبيعة ". وقد استحضرت السياسة الامريكية هذه الافكار في مراحل احتلالها للعراق غير انهم تناسوا قضايا أساسية اهمها:اولاً: تنامي الوازع الديني في العراق نتيجة للكبت الذي مارسته سلطات البعث ايام صدام حسين، والحكومات السابقة لها.ثانياً: تدني الفكر المادي وعدم قدرته على مليء الفراغ الروحي. لانه لايمكن لقيم منحطة أن تحل محل المثل العليا.ثالثاً: طبيعة الروح الشرقية في الشخصية العراقية، ولعلهم هنا كان يجب ان يرجعوا لكتابات استاذنا الدكتور علي الوردي رحمه الله في تحليله للشخصة العراقية إجتماعياً.رابعاً: فشل النظرية القومية في العراق، كنتيجة للصراع بين القبلي والديني.فمنذ البدء فرضت قضية التناقض بين الروحي المادي نفسها على الحياة لانها قضية الصراع بين الخير والشر، والشكل السياسي لها لا يختلف عن الشكل الاجتماعي أو غيره من الاشكال، إذ يبقى الإشكال يكمن في الموقف من المثل العليا، مما يعكس موقف الفلسفة الاسلامية في الحكم في تقديم العدل على القوة في ضوء التناقض بين الروحي والمادي.إشكاليات المواطنة والحكم:أسس الفكر الغربي مفهوم المواطنة إبتداء على التفوق العرقي مدعياً صلاحية العرق الأبيض في الهيمنة، حين كان العرق الابيض هو السائد في اوربا قديماً، (3) وكانت بقية الاعراق تعتبر دخيلة، غير ان الموقف تغير بعض الشيء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حيث حدثت الهجرات وطلب اللجوء، ثم بعد ظهور فكرة الاتحاد الاوربي. إلا أن فكرة هيمنة العرق الابيض بقيت سائدة في جوانب من منهج الفكر السياسي والاجتماعي على السواء. ففي بريطانيا مثلا لم يصل احد المهاجرين الى مراكز قيادية في الدولة، ولكن يمكن لبعضهم ان يحصل على مقاعد في البرلمانات المحلية، وهذا ما تشحعة الدولة لفض النزاعات بين المهاجرين وتلبية حاجياتهم ولتقديم صورة ايجابية عن ديمقراطية اوربا، وايضا لمراقبة الوضع العام.أما في مفهوم الفلسفة السياسية الاسلامية، فعلى الرغم من اعتراف الإسلام بالتنوع والتعدد إلا أنه جب الانتماء القبلي وجعل الولاء للاسلام، فصار الاسلام بمثابة وثيقة للوطنية خارج الانتماء القبلي، الذي تم تغذيته في فترة السلطتين الاموية والعباسية.إن تحجيم الانتماء الاسلامي أمام الانتماء القبلي والانغماس في تعميم النزعة العشائرية قد أضر بالانتماء القبلي اكثر من ضرره بالاسلام، فالقبيلة استطاعت ان تحقق وجودها من خلال الاسلام الذي حافظ على قيمة الانسان ووجوده. فمحاولة تعميم النزعة القبلية تحت شعار المواطنة يعبر عن جهل في تفسير كل منهما اصطلاحاً ولغة، هذا غير التباين بين الموقف العشائري والموقف الوطني من ناحية ضيق ومحدودية الاول وشمولية الثاني.لعل عدم صلاحية النظام العشائري والقبلي ليكون أساساً في الحكم أنما ناتج عن النظرة الضيقة والنزعة الانسانية الى الذات والعائلة والعشيرة التي يتمثل بها تنامي الاهواء والنشوز في العلاقات مع الاطراف الاخرى خارج القبيلة والعشيرة، مقابل النظرة الشمولية للاسلام.النزعة نحو الخلود:في الوقت الذي يسعى فيه المحكوم لتحقيق علاقة عقد إجتماعي مع الحاكم تتنامى بتنامي الظلم قبل أن يصل الموقف لحالة الانفصال، يتجه الحاكم منذ الايام الأولى للحكم نحو تغذية نزعته في التحول إلى طاغية دكتاتور. فالخلود قضية نفسية وشعورية قبل ان تكون قضية عقليه، وهي نزعة نحو البقاء. لكن هل يمكن تحقيق علاقة متوازمة بين الحاكم والمحكوم: ففي المدينة الفاضلة لافلاطون كان المبدأ هو العدل المطلق ويرى إفلاطون انه: (حتى نصل الى ذلك فعلينا نضع كل شخص في مكانه المناسب فالطبقة الفاضلة والعلماء المخلصين الذين يفنون حياتهم لأجل الصالح العام وهؤلاء هم من يضعون القوانين ويختارون للناس الافضل للصالح العام. ويسمى هذا النظام بالارستقراطي. ويعطى المواطن في هذه الجمهورية الوظيفة بناء على قابلياته وليس بإختياره بل لما فيه الخير العام).قد تكون المدينة الفاضلة مجرد رؤية إفلاطونية في تحقيق مستوى من مستويات العدل مع الحفاظ على نوع من التسلسل الطبقي. إلا إنها لا تمثل المطلق الالهي وقد لا تبدو هذه الفكرة عقلانية لدى أتباع المنهج الديمقراطي الحر واللامقيد باعتبار ان من حق الانسان وفق منهجهم إختيار اي عمل حتى وإن لم يتفق مع قدراته الفكرية والجسدية، وأيضا قد لا يتفق معها أصحاب المنهج الدكتاتوري، ومع أنها تبدو واقعية في مظهرها، وأقرب إلى المنهج الاسلامي مع الإختلاف في مسميات النظام (أروستقراطي أو غيره)، إلا أنها لا تصلح للتطبيق كمنهج نهائي في الحكم لإفتقارها للعقيدة والموقف التشريعي المستقبلي.لكن ألم يحلم كل الحكام بالخلود؟ إلم تراودهم تلك النزعة؟ ألا يظهر ذلك في سعيهم بكل الطرق القانونية وغيرها للبقاء يوم آخر في السلطة؟ ديمقراطيون ولبراليون وارستقراطيون وعلمانين ودينيون وغيرهم. لم يأتي احدهم للسلطة ليهيء الحكم لشخص او حزب آخر ولا لمنظمة أو دولة أخرى بل جاء ليبقى وليضرب الاخرون رؤوسهم بكل حيطان الدنيا..........................1- ق: 16.2- ليو شتراوس: 1899-1973. فيلسوف امريكي يهودي، يعتبر ابو الافكار التي تبناها المحافظون الجدد الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الامريكية. أنظر الافكار السياسية لليو شتراوس. طبع 1988م.3- انظر البياتي، أ.د. وليد سعيد، نظرية الوحش الاشقر، سلسلة بحوث في فلسفة التاريخ نشرت 1997-1998.

الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.uk22 شباط 2013مالمملكة المتحدة - لندن

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك