بغداد_حسين حبيب
هي شخصية أقرب إلى الفنان الذي يؤدي دور البطولة على خشبة المسرح، مدة ظهوره هي 30 يوما فقط في ليل رمضان، أما باقي الأبطال فهم الطبلة والعصا وصوت جهوري ينادي ويتغنى.. إنه "المسحراتي" تلك الشخصية التي ينتظرها الناس كل رمضان لإيقاظهم في موعد تناول السحور.
وعلى الرغم من ان أن وسائل الإعلام الحديثة أثرت على المسحراتي وجعلته في طريقه للانقراض فإنه لا يزال يتمسك بعاداته وما زال مرتبطا بقلوب الناس؛ فهذا الحاج راسم المعموري وهو مسحراتي في مدينة الصدر في بغداد ، رغم أنه تعدى الستين عاما فهو ما زال متمسكا بمهنته، نجده كل ليلة من ليالي شهر رمضان مرتديا جلبابه ، متجولا على قدميه ، ممسكا طبلته ، مناديا بنداءات مختلفة.. ففي أول 10 أيام من رمضان ينادي: "جئت يا شهر الصيام بالخير والبركات"، و الأيام العشرة الثانية ينادي: "يا نصف رمضان يا غفران الذنوب"، ثم في العشر الأواخر ينادي: "وداعا يا رمضان يا شهر الكرم والإحسان".
كيف ظهر المسحراتي؟
بداية كان المسلمون يعرفون وقت السحور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بأذان "بلال بن رباح"، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان "عبد الله ابن أم مكتوم"؛ فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم.
وفي مكة كان "الزمزمي" ينادي من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منة قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية من باب أن التنبيه على السحور دلالة على الخير وتعاون على البر، ومن تطوع خيرا فالله يخلفه.
ويذكر المؤرخون أن المسحراتي ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق" أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك؛ فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحر، وكان ذلك عام 238 ه، حيث كان يطوف على قدميه سيرا من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط مناديا الناس: "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة".
وفي عصر الدولة الفاطمية كان الجنود يمرون على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الوقت تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: "يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
وتطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر؛ حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى "بازة" وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة.
ومن أشهر هذه الأشعار:
اصحى يا نايم وحد الدايم..
وقول نويت بكرة إن حييت..
الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم..
ومن مصر انتشرت هذه المهنة في الولايات الإسلامية، فقد كان أهل الشام ذوي طقوس خاصة تحيط بالمسحراتي؛ حيث كان المسحراتية في الشام يطوفون على البيوت وهم يعزفون على العيدان والصفافير وينشدون الأغاني الخفيفة.
وفى بغداد كان "ابن نقطة" أشهر من عملوا بالتسحير، ، فقد كان يتغنى بشعر يسمى "القوما" مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أطلق علية اسم القوما لأنه كان ينادي ويقول: "يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما".
"المسحراتي ظاهرة اجتماعية"
يقول "رحيم شاكر وهو من اهالي منطقة ابو دشير في بغداد ارتبطت منذ طفولتي بالمسحراتي؛ حيث كنت أحمل الفانوس مع الأطفال وننتظر قدوم المسحراتي للخروج والتجول معه أثناء نداءاته، فكان ذلك مصدر سعادة لنا، وكنا نردد معه أيضا بعض نداءاته مثل: "الإمساك يا مسلمين يا موحدين"، و"ارفعوا الطعام يا صائمين"، أما الآن فلم يعد يحدث ذلك لاختفاء المسحراتي حاليا.
أما "عباس الدراجي وهو من اهالي منطقة الكرادة في بغداد" فيقول أعتقد أن السبب في الارتباط بالمسحراتي هو دقات الطبلة التي كان يحملها في يده و دق عليها؛ فهي شيء غريب يجذب انتباه الأطفال ويجعلهم يتجولون مع المسحراتي ويصفقون ويتغنون معه، من هنا كانت العلاقة القوية بين الأطفال والمسحراتي، ما جعلنا نرتبط به عاما بعد عام.
المسحراتي.. تاريخيا
جذبت شخصية المسحراتي بعض الرحالة والمستشرفين الذين زاروا مصر على مر العصور؛ حيث تحدثوا عن تقاليده وشغف المصريون به، فالرحالة المغربي "ابن الحاج" الذي جاء إلى مصر في العصر المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون تحدث عن عادات المصريين وجمعها في كتاب وقال عن المسحراتي مبديا دهشته واستغرابه مما شاهد: إنه تقليد خارج عن الشرع لم يعرفه في بلاده، وذكر أن المسحراتي ينادي ويغني في شوارع القاهرة، أما في الإسكندرية فيطوف ويدق على البيوت بالعصي.
أما أبرز من تحدث عن المسحراتي فهو المستشرق الإنجليزي "إدوارد وليم لين" الذي زار مصر خلال القرن التاسع عشر في عهد محمد علي، وقد شغف شغفا كبيرا بعادات وتقاليد المصريين؛ حيث عاش بها فترة طويلة وتعلم اللغة العربية، وقد ذكر لين كيفية احتفال المصريين بقدوم رمضان، وتحدث عن عادات المسحراتي، بل إنه ذكر نصوص الأغاني التي يتغنى بها والنوتة الموسيقية الخاصة بكل أغنية.
https://telegram.me/buratha