بعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات التشريعية، دخل المشهد الكردي مرحلة دقيقة تعكس تحولاً في موازين القوى داخل الإقليم، وتعيد طرح الأسئلة المتعلقة بشكل التمثيل الكردي في بغداد خلال المرحلة المقبلة. فالانتخابات لم تكن مجرد عملية تصويت، بل محطة سياسية أعادت ترتيب العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وسط توازنات جديدة تُفرض قبل الدخول في مفاوضات تشكيل الحكومة الاتحادية.
تعاملت الأحزاب الكردية مع الانتخابات بوصفها اختباراً لشرعيتها وفرصة لإعادة تثبيت موقعها داخل العملية السياسية الوطنية. ويرى مراقبون أن الحزب الديمقراطي الكردستاني حافظ على موقعه المتقدم في دوائر اربيل ودهوك، فيما عزز الاتحاد الوطني حضوره التقليدي في السليمانية، ما أعاد طرح سؤال محوري مفاده: هل يذهب الكرد إلى بغداد ككتلة سياسية موحدة أم كمسارات متباعدة؟
ويشير متخصصون في الشأن الانتخابي إلى أن كل مرحلة شهد فيها الإقليم انقساماً بين الحزبين، انعكس ذلك فوراً على حجم المكاسب التي كان يحققها الكرد في بغداد، خصوصاً في الملفات السيادية.
تأتي هذه النتائج في ظل وضع اقتصادي وإداري معقد داخل الإقليم، يتمثل في أزمة الرواتب، وتراجع الإيرادات النفطية، وضعف التنسيق المؤسساتي بين أربيل والسليمانية. ويؤكد خبراء اقتصاديون أن هذه التحديات تفرض على الحزبين الرئيسيين تجاوز خلافاتهما، لأن الانقسام الداخلي سيؤدي إلى إضعاف قدرة الإقليم على مواجهة الملفات العالقة مع بغداد.
ويشير متابعون إلى أن الشارع الكردي بات أكثر حساسية تجاه أي صراع سياسي، إذ يرى أن الانقسام ينعكس مباشرة على حجم الخدمات ومستوى الأداء الحكومي.
في هذا السياق، يؤكد الباحث في الشأن السياسي ياسين عزيز لـ"بغداد اليوم" أن نتائج الانتخابات "رسمت شكل المناصب لحكومة اربيل"، مشدداً على ضرورة توصل الحزبين إلى اتفاق واضح قبل التوجه إلى بغداد. ويضيف: "انتظرنا الانتخابات بفارغ الصبر ليقرر الديمقراطي والاتحاد حل الملفات المؤجلة داخل الإقليم قبل الذهاب لتشكيل الحكومة. هذه الانتخابات رسمت نتائجها الأولية المشهد وشكلت المناصب لحكومة اربيل، لذا لابد للحزبين من الاتفاق قبل الذهاب إلى بغداد".
وأشار عزيز إلى أن "التفاوض في بغداد يجب أن يكون مع الكتل الفائزة والإطار التنسيقي باعتباره فاعلاً سياسياً يشكل قيادة طيف واسع داخل العملية السياسية الاتحادية"، مبيناً أن "وضوح المطالب الكردية يجعل الموقف أقوى ويعكس إرادة الجمهور في الإقليم".
وشدد على أن "الذهاب منفرداً إلى بغداد سيضعف الموقف الكردي ويعمق الفجوة بين الحزبين داخلياً وخارجياً"، مشيراً إلى "ضرورة انتهاز الظرف السياسي الحالي وتوحيد الكلمة للدفاع عن حقوق الإقليم وتقديم موقف سياسي موحد تجاه الملفات كافة، وفي مقدمتها حسم رئاسة الجمهورية".
ويشير مختصون في العلاقات الاتحادية إلى أن أي غياب للتفاهم الكردي سيعيد إنتاج سيناريوهات سابقة فقد فيها الإقليم مواقع سياسية مؤثرة بسبب غياب الموقف الموحد.
وبحسب النتائج الأولية، حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني على نحو 26 مقعداً، فيما نال الاتحاد الوطني ما يقارب 17 مقعداً. ويرى خبراء في الشأن الكردي أن هذه الأرقام تعكس استمرار الثنائية التقليدية داخل الإقليم، لكنها في الوقت ذاته لا تمنح أي طرف القدرة على فرض قرار منفرد في بغداد. ويشير مراقبون إلى أن هذا التوازن يجعل من صياغة موقف سياسي مشترك أمراً ضرورياً للحفاظ على المكاسب الدستورية للإقليم.
وتزداد حساسية هذا التوازن البرلماني في ظل تصاعد المطالب السنية بالحصول على منصب رئاسة الجمهورية للمرة الأولى منذ عام 2003، وهو توجه يرى محللون سياسيون أنه يفرض على الحزبين الرئيسيين التعامل مع المرحلة المقبلة بحذر أكبر. ويشير خبراء دستوريون إلى أن أي انقسام كردي قد يمنح القوى السنية فرصة لتقديم ملفها بقوة، بينما يواجه الإقليم تحدياً للحفاظ على أحد أهم المناصب السيادية.
ويؤكد مراقبون أن الحفاظ على رئاسة الجمهورية داخل البيت الكردي يتطلب اتفاقاً واضحاً بين الديمقراطي والاتحاد قبل الدخول إلى بغداد، لأن أي تباعد بين الطرفين سيضعف فرصهما في الدفاع عن هذا الموقع.
ويتداخل هذا المشهد مع حالة إعادة التموضع التي تشهدها القوى الشيعية بعد الانتخابات، مما يجعل مسار التفاوض معقداً ومفتوحاً على احتمالات متعددة. ويرى محللون أن بعض القوى الشيعية قد تتفاعل إيجابياً مع مطالب السنة بشأن رئاسة الجمهورية، في إطار محاولات موازنة القوى داخل الحكومة المقبلة. ويشير متخصصون إلى أن هذا الواقع يزيد من أهمية وحدة الموقف الكردي، لمنع أي تغييرات غير محسوبة في توزيع المناصب السيادية.
من جهته، أكد المحلل السياسي محمد زنكنة أن الموقف الكردي ما زال يفتقر إلى الوحدة حتى اللحظة، مشيراً إلى أن الاتحاد الوطني سبق وأن تراجع عن اتفاقات سياسية مهمة مع الحزب الديمقراطي، مفضلاً في بعض المحطات التنسيق مع قوى خارجة عن إطار الاتفاق الثلاثي للدولة. وقال إن هذا السلوك مرشح للتكرار ما دام التباين قائماً بين الحزبين.
وأوضح زنكنة لـ"بغداد اليوم"، أن الضغوط الداخلية والخارجية قد تفرض توافقات مرحلية بين الطرفين، لكن كل خطوة سياسية لاحقة ستُحسب عليهما وفق نتائج الجلسات الأولى في برلمان كردستان ومجلس النواب العراقي. وحذر من أن اعتماد بغداد على مبدأ “حكم الأغلبية” قد يعيد إنتاج الفشل في الملفات العالقة بين المركز والإقليم، ما لم تُبنَ الحكومة المقبلة على توازن وتوافق فعليين.
وأضاف أن إشراك الكرد من دون إشراكهم في القرار سيجعل المشاركة “شكلية”، مشيراً إلى أن استمرار إدارة الدولة بقرار صادر من طيف سياسي واحد سيُفقد الحكومة توازنها، مستشهداً بما قاله الرئيس مسعود بارزاني بأن العراق لا يدار بأوامر جهة أو مذهب واحد.
ولفت زنكنة إلى أن التدخلات الخارجية قد تتطور إلى صفقات سرية بين أطراف الأغلبية، وأن الاتحاد الوطني لا يمانع التفاوض مع أي جهة حتى لو جاء ذلك على حساب مصالح الحزب الديمقراطي، معتبراً أن هذا النهج يمثل ثقافة سياسية متجذرة داخل الاتحاد الوطني وتشكل واحدة من أبرز تحديات المشاركة الكردية في الحكومة الاتحادية المقبلة.
تشير قراءات سياسية إلى أن نتائج الانتخابات شكلت لحظة مفصلية تعيد ترتيب مواقع الحزبين الكرديين داخل الإقليم، وتفرض عليهما إعادة بناء موقف مشترك قبل الدخول في مفاوضات بغداد. ويؤكد خبراء أن المرحلة المقبلة تتطلب خطاباً سياسياً موحداً بين اربيل والسليمانية، ليس فقط للحفاظ على المكتسبات الدستورية، بل لضمان عدم فقدان مواقع حساسة مثل رئاسة الجمهورية، وتعزيز قدرة الإقليم على حماية مصالحه في الملفات الاتحادية الأساسية.
وفي ضوء الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة، يبدو أن الاتفاق قبل بغداد لم يعد خياراً سياسياً، بل ضرورة لضمان موقع تفاوضي قوي، واستقرار داخلي في إقليم كردستان خلال المرحلة المقبلة، بحسب مراقبين.
https://telegram.me/buratha

