د.أمل الأسدي ||
لكل شعب من الشعوب عادات وتقاليد وسمات متوارثة،تنتقل من جيل إلی جيل آخر، تحتفظ بها الذاكرة الجمعية، وتعتز بها وبتمظهراتها علی صعيد الملبس والمأكل والمشرب والفعاليات المختلفة، وهذه العادات والتقاليد الشعبية تمثل هوية الشعب الاجتماعية والثقافية، وذلك لرمزيتها وارتباطها بالبلد وبسكانه ،من هنا اكتسب الفلكلور أهميته ،وصارت المحافظة عليه ضرورية ؛لأنه يمثل وجود هذا الشعب وحضارته وكيانه وخصوصيته،وهنا سأتطرق الی مناسبتين يحتفل بهما الشعب العراقي وهما ( يوم زكريا وعيد النوروز) فهما من الموروث الشعبي الذي اعتاد العراقيون علی إحيائه في كل عام،إلاّ أن هناك متغيرات لحقت بهذين الطقسين أو المناسبتين، فصوم زكريا الذي يكون في الأحد الأول من شهر شعبان، وهو يرمز لصوم النبي زكريا الذي رزق علی أثره بالنبي يحيی، كان يُحتفی به في بغداد علی وجه الخصوص أكثر من بقية المحافظات، إلاّ أنه لم يكن كما هو الآن، فقد كانت صفته الصيام لثلاثة أيام، صوما إسلاميا،ثم الإفطار علی خبز الشعير والماء المالح (ماء البئر) مع الخضروات الورقية وقليل من الدبس واللبن مع إشعال الشموع والدعاء والتوسل إلی الله تعالی لقضاء الحوائج ولاسيما لمن يطلب الذرية، وحين رجعتُ إلی الأمهات والآباء والجدات وسألتهم عن ماهية (صوم زكريا) قالوا : إنه كان بالهيئة التي ذكرناها ولم يكن كما هو الآن، فالصينية والجرار والأباريق الملونة والآس والبياضات والحلوی والطبلة لم تكن من مظاهر صوم زكريا حتی عام 1962م تقريبا ،إذ بدأت طقوسه تتغير، واُضيفت عليه هذه المظاهر وهي من مظاهر عيد النوروز كما سنبينه لاحقا، تقول الحاجة أم محمد وهي من مواليد الكاظمية،عام 1940 أنهم كانوا في (يوم زكريا ) يخرجون في الأحد الأول من شعبان ليشتروا خبز الشعير من باب المراد، إذ تنتشر بائعات خبز الشعير في ذلك اليوم، ويُؤتی بماء البئر من أجل الإفطار به تعبيرا عن الصبر والتضرع لله تعالی.
ويحكي لنا الحاج محسن وهو من مواليد 1936م عن صوم زكريا، أنه إذا لم يتوفر ماء البئر يقومون بنبذ الملح في الماء والإفطار به.
أما عيد النوروز فهو الحدث الأهم بالنسبة إليهم ،فتُزرع الجرار وتُعد (الزردة بالحليب) وتُعجن (الكبة )وتُعد قدور (الدولمة) وتصبغ الأباريق، ويوضع (الياس) في الصواني، وتشعل الشموع، وتتبادل العوائل التهنئة والمأكولات والمشروبات، وترمی الجرار المزروعة من فوق السطح لتتكسر وترمز بذلك لزوال الشر ودفع البلاء،
وظلت هذه الطقوس الشعبية حتی منتصف السيتينات تقريبا، وبعدها تغيرت الأمور وانسحبت هذه المظاهر الی يوم زكريا!!
والجدير بالذكر أن النوروز هو عيد سومري قديم، فالشعب السومري قد سبق شعوب الأرض بالاحتفاء به؛ذلك لأنهم كانوا يزرعون وينتجون ويهتمون بالخصب والربيع ،ولبداية السنة الزراعية أهمية كبيرة عندهم، وعلی هذا كانوا يحتفلون بعيد (اكيتو، أو أكيتي) في نهاية شهر آذار وبداية شهر نيسان، وهو يوم الاعتدال الربيعي الذي تتساوی فيه ساعات الليل والنهار، ثم انتقل هذا العيد لشعوب أخری كثيرة، فأصبحت تحتفي به وصار موروثا شعبيا وتراثا مشتركا بين بلدان كثيرة مثل تركيا وإيران والعراق وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وطاجيكستان وغيرها.
نعود إلی بغداد والمجتمع البغدادي الذي كان يحتفي بهذا العيد وبشكل باذخ ومميز ، ويتم التحضير له والإعداد له من مدة، وتجتمع الأسر وتمتلئ (درابين) الكاظمية ومحلاتها برائحة(تمن العنبر) وتتناقل أطباق (الزردة والحليب ) بين الجيران، وتزدان المنازل بـ(صواني) الاحتفال والشموع وشتی المأكولات، وظلت هذه هذه المظاهر المبهجة حتی منتصف الستينيات كما أسلفنا،ولايُعلم كيف انسحبت هذه المظاهر الی صوم زكريا؟ وما الأسباب والدواعي لذلك؟ ولانعلم إن كانت هناك أياد خفية دفعت باتجاه قوقعة الشعب وعزله عن المشتركات الإنسانية والشعبية ودفعه نحو القومية والقطرية!!
وفي كل الأحوال يخلو (يوم الزكريا والنوروز ) من المظاهر المحرمة المنافية للتعاليم الإسلامية؛بل هما يعززان من الترابط الأسري ويسهمان في إشاعة المحبة والألفة والجمال، ويتيحان فرصة للصفاء الروحي والعودة إلی بساطة والتلقائية، ولاسيما (يوم زكريا )الذي يقترن بالدعوات الی الله تعالی والتضرع وطلب الحوائج، ولا أدري لماذا يحاول بعض المتطرفين تزييف الواقع والادعاء بأن الناس في هذا اليوم تصوم صيام الصمت!!! والحقيقة أن الناس في هذا اليوم تصوم صياما إسلاميا، ولاننسی أن أجواء شهر شعبان في الأصل، كلها صيام وعبادة وأفراح بولادات أهل البيت (عليهم السلام).
وعلی هذا ينبغي لنا المحافظة علی تقاليدنا وعاداتنا مادامت لاتتعارض مع النصوص المقدسة ومادامت تعود بالنفع المادي والمعنوي علی الناس، ومادامت تمثل جزءا من الهوية الشعبية والثقافية للبلد، ولايفوتنا أن نذكر أن اليونسكو وفي جلسة شباط 2010 م، قررت إدراج عيد النوروز في القائمة النموذجية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، كما اعترفت بيوم 21 آذار بوصفه «يوم نوروز الدولي».
فكل عام وأنتم بألف خير.